أحمد فؤاد*
الإنسان ليس أسير زمنٍ يعيد نفسه. بل هو أسير نزعة الشرّ داخله.
التكرار ليس صدفة
الزمن لا يتكرّر. لكن البشر هم من يجدّدون أفعالهم بأساليب مختلفة وأدوات متغيرة. التكرار ليس صدفة. والتشابه ليس عشوائيًا.
منذ أن خُلِق الإنسان وهو يصارع ذاته قبل أن يصارع بني جِنسه. مسكون بشهوات لازمة لاستمرار حياته. منكوب بنزعة الشرّ داخله. مُعذّب حتى يوم الدين بكفاح عسير مع نفسه.
ولكي يهرب الإنسان من مواجهة النفس ومنازعة الضمير. فإنه يخلق لنفسه حالة من التماهي مع الكذب. يكذب الإنسان على نفسه ويصدق مبرراته المصنوعة -ببراعة العقل الباطن- خصيصًا من أجله. ومن أجله فقط.
يتفنن الإنسان في اختلاق مبررات لفظائع ما يرتكب من ظُلم وقتل وسرقة ومكائد ترفع من شأنه وتختصر طريق طويل من العمل السليم. يُفتن الناس بالنتائج ويرغبون من أعماقهم السير في نفس الطريق السريع. يزداد الجمع ويتقاطر عليهم مَن وَقع في شِباك الإغراء. ولإرساء أسس المجتمع المتكامل حسب إيمانهم -المنحرف- يؤسسون قانون العدل المشوّه. مُستهلّين فيه بدستور مبدأه الأول؛ هو أن الظُلم والاستغلال والجور مجرد أعراض جانبية لا بُد منها في سبيل خلق مُجتمع مستقر.
في ظل مجتمع كهذا. من الطبيعي أن يشك المرء في نزعة الخير المفطور عليها. في الحق والعدل والمساواة والإنصاف والنزاهة. يدفع صخرة إيمانه على جبل واقِعَه، في محاكاة لأسطورة سيزيف. يعذبه ضميره إن حاد عن طريقه وتفتك به حاجاته وعوزه في حياته والتي يتحكم فيها من لا يريدون له أن يخرج من صراعه الأبدي.
هكذا كان مساعد بطل الرواية.
الزمن
تغوص بنا الرواية في بحر التاريخ لتنقلنا إلى ثلاثينيات القرن العشرين على أرض الكويت.
اختيار الفترة الزمنية كان موفقًا لعدة أسباب:
السبب الأول والأهم هو إقامة مقارنات غير مباشرة لا بُد أن تنشأ في عقل القارئ، بين الماضي والحاضر. يقيم عبد الوهاب الحمّادي هذه المماثلة ليلقي الضوء ببراعة على التشابه الكبير الذي يربط بين الحاضر والماضي فقط إن تغيّرت الأسماء والمراكز والأماكن. هذا التشابه الذي لم يقصد منه الكاتب إسقاطًا مُباشرًا وإنما رغب في إقامة معادلة دائمة – قابلة لتغيير مكوّناتها- يتكامل معها المجتمع. والأمر الذي برع فيه عبد الوهاب الحمّادي هو عرض المفارقة في وجود تشابه واضح بين الماضي والحاضر على الرغم من التناقض الصارخ بين الحال الاجتماعي والاقتصادي للدولة وأفراد المجتمع بين الفترتين. من فقر مُدقع لأغلب أفراد مجتمعه إلى رخاء وخير عميم.
السبب الثاني هو التصوير الساحر لمدينة الكويت في تلك الحقبة الزمنية. تفاصيل شديدة العُمق، وبالغة الدقة توضح مدى اجتهاد عبد الوهاب الحمّادي ومدى رغبته الحقيقية في إحياء الجمال الخلّاب لمدينة الكويت المٌشرّب بشجن الحنين. رسم الكاتب ببراعة -تستحق الإعجاب- طرقات المدينة وحاراتها وأسواقها المختلفة ومقاهيها. المرقاب والقِبلة وبيت ديكسون والمستشفى الأمريكي وسوق واجف سوق الخبابيز وتل هبيتة وميناء الفرضة وربوع حولي وبيان. يخيط الاحداث مع الأماكن مع الشخصيات ليخرج نسيجًا يكون القارئ جُزءًا منه طوال الرواية، وربما صارت الرواية جزءًا منه بعد إنهائها.
السبب الثالث وهو إبراز الجانب الثقافي المعروف عن الكويت. اجتماع المثقفين في أسواق ومقاهي محددة. الحرص على الاطلاع والثقافة من أدوات الثقافة في الماضي وعلى رأسها المجلات الثقافية الآتية من مصادر الثقافة حينها في مصر والعراق. هذا الجانب الثقافي تميّزت به الكويت وما زالت ولنا في هذه الرواية ذاتها كعمل أدبي خير مثال.
الصيد في بحر المصائب!
تتعمّق الرواية في الجانب الاجتماعي للمجتمع الكويتي في ثلاثينيات القرن العشرين. ويُظهر الكاتب أثر الأحداث الجِسام التي مرّت على الكويت في تلك الفترة. سنة الجدري... سنة الهدامة... سنة الطفحة... عزوف مشتري اللؤلؤ عن شرائه -بعد أن استزرعته اليابان- وهو مصدر الرزق الأساسي للكثير من أفراد المجتمع. نرى الاهتمام في إيضاح أثر هذه الأحداث على أفراد المجتمع وطرق تعاملهم مع الأمر. الغرق في شباك الديون – رهن البيوت – فقدان ممتلكات. استغلال بعض التجار لهذه المآسي أغرق المجتمع في بحر الديون. ويستمر الكاتب في عرض انعكاس ذلك في تغيّر تراتيبية بعض أفراد المجتمع. ومدى الهيمنة التي تُستخدم فيها أساليب الضغط والأدوات دينية والعلاقات اجتماعية كأدوات ابتزاز-بعضها ناشئ عن ذلك الانعكاس- لفرض الهيمنة والسُلطة.
كاميرات متعددة للسرد
استخدم عبد الوهاب الحمّادي مزيجًا سرديًا في كتابة روايته. حيث يستعرض الكاتب حكايته بأسلوبين متضافرين، وكأن دراما الأحداث مُصوّرة لنا بكاميرتين مختلفتين. كل كاميرا منهما تنقل لنا الأحداث. ينسج عبد الوهاب حبكته بتصوير كل حدث من خلال زاوية -أو وجهة نظر- مُحددة تكون لبنة لقادم الأحداث. ومع تقدّم الرواية سنجد تلك الأساليب السردية تتداخل بشكل مُتقن لتصنع نصًا مُركبًا في باطنه مهما بدا بسيطًا.
الأسلوب الأول - الكاميرا الأولى. هو أسلوب الراوي العليم. حيث ينقل لنا الكاتب الأحداث بشكل ظاهري من خارج الشخصيات. وكأنه يلقي الضوء على وجهة نظر محايدة يشاهدها القارئ. لكن في نفس الوقت يعطي الكاتب بعض الشخصيات مساحة محدودة للتصريح عن بعض ما يدور في عقولهم في الخفاء. يدسّ الكاتب تلك الأفكار الدائرة في عقول أصحابها بين الأحداث وبين الحوارات القائمة بين الشخصيات.
الأسلوب الثاني - الكاميرا الثانية. هو نمط مُعدّل من أسلوب منظور الطرف الثالث POV - Prespective - وهو الأسلوب المُستخدم في أكثر الرواية. بدأ عبد الوهاب الحمّادي روايته بهذا الأسلوب وأنهاها به. لم يُستخدم هذا الأسلوب سوى مع شخصية مساعد بطل الرواية.
وعلى الرغم من أن الكاتب ينقل لنا الأفكار الداخلية والأحداث من وجهة نظر مساعد. إلا أن الأسلوب كان أسلوب مُخاطَب. وكأن الرواي العليم يتحدث مع شخصية مساعد.
استخدام هذا الأسلوب تحديدًا كان خطوة رائعة. لماذا؟ إن تأملنا هذا الأسلوب سنجد أنه يصوّر الصراع النفسي الداخلي لشخصية مساعد منذ بداية الرواية وحتى انتهائها .هذا الصراع يأتي عن طريق النزاع المُستمر بين الأنا Ego والأنا العُليا Super-Ego (حسب تقسيمات سيغموند فرويد). ولكل منهما شخصية مستقلة في الأحداث. يُمكننا أيضًا تسمية الراوي الذي يُخاطب مساعد دائمًا هو الضمير (في صورة متطرفة). يتعرض مساعد لهذا التقريع الداخلي على مدار الرواية. ويبرر هذا الصراع الكثير من العوائق التي مرّ بها مساعد ومدى تأثير تلك العواقب على مجريات حياته.
يتنقّل الكاتب بسلاسة بين الأحداث باستخدام كأسلوب سردي مختلف (كاميرا تصوير مختلفة) مع كل حدث. فنرى استخدام الكاتب لتصوير أحداث الماضي التاريخية (فلاش باك) لا يتم بصورة واحدة. وإنما مرة يستخدم أسلوب الراوي العليم المحايد. ومرات يستخدم أسلوب منظور الطرف الثالث. هذا الأخير تحديدًا يستخدمه الكاتب بكثرة لأنه أراد إبراز انعكاس تأثير الماضي على شخصية مساعد بناء على تفسيره الشخصي للأحداث ودرجة تأثيرها عليه لأن هذه التفسيرات هي ما صنع شخصية مساعد مما يعطينا فكرة عن أسباب مخاوف مساعد ودوافع قراراته التي اتخذها على مدار حياته.
لا يوجد تواجد كبير لبقية الشخصيات في الرواية. حيث جاءت بقية الشخصيات كشخصيات مُساندة لبطل الرواية دورها الحقيقي يتمثّل في بناء شخصية مساعد في عقل القارئ، مع هامش مُتغيّر بنسب مختلفة بين رؤية مساعد الشخصية للشخصيات وبين أفعال الشخصيات ذاتها المصورة بأسلوب الراوي العليم.
اللغة
منذ أن تعانق الكلمات الأولى للرواية عين القارئ؛ يدرك الأخير أنه أمام عمل أدبي بليغ وكاتب فصيح. عبد الوهاب الحمّادي لديه قلم ساحر. يستخدم أدواته اللغوية ببراعة. يرسم الصور البلاغية بكل مهارة من استهلال مشوّق، إلى تشبيهات واستعارات ذكية، إلى إيجاز ومجاز حاذق. اهتمام ملحوظ بأصول الكلمات التراثية سواء على مستوى الفصحى أو على المستوى المحلّي الدارج.
الصورة حاضرة في قلم عبد الوهاب بشكل مكثّف دون إسهاب. تفاصيل حاضرة في كل مشهد. دقيقة وافية ليس لوصف المشهد فقط، وإنما ليتكامل الوصف الحسّي مع الوصف النفسي مع الحالة الكليّة لمشهد متكامل يكاد القارئ يسمع منه أصواتًا هاربة منه!
التقييم النهائي
هل الإنسان مُخيّر حقًا؟ وما عواقب اختياراته وسط مجتمعه؟ هل الإنسان حُرّ فعلًا؟ أو بالأحرى، هل يتقبّل البشر حرية أقرانهم في اتخاذ قراراتهم؟
الأب - الأم - الزوج - الزوجة - الأخ - الأخت - الابن - البنت - العائلة - العمل - المدير - الحاكم - القانون - العُرف.
من يقبل بقرارات حُرّة شرّعها الله فيحظرها عباده بأعذار وذرائع ومسوغات تضمن لهم السيطرة وتجنبهم الخوف من فقدانها.
الجميع يرغب في السيطرة. والكل يتشدق بالحرّية… شريطة ألا تُفقده التحكّم بالآخرين!
يتفاخر المُهيمن بسطوته، ظنًا منه أن القوة هي الشجاعة. بينما الشجاعة الحقيقية هي فقط من نصيب أصحاب القرارات الحُرّة!
رواية "سنة القِطَط السًمان" للكاتب الكويتي عبد الوهاب الحمّادي. رواية أدبية جذابة كُتِبَت بأسلوب جزل يثير الإعجاب.
تقييمي للرواية خمس نجوم.
*كاتب مصري مقيم في الكويت