مثلما كان منتظراً، أصدرت إحدى المحاكم التونسية المختصة في قضايا الإرهاب الأسبوع الماضي أحكامها في قضية اغتيال المحامي والقيادي اليساري شكري بلعيد عام 2013.
تضمنت الأحكام في حق المتهمين الثلاثة والعشرين أربعة أحكام بالإعدام والبقية بالسجن من أربع سنوات إلى المؤبد، إلى جانب خمسة أحكام بعدم سماع الدعوى.
كان من المنتظر منذ البداية أن تركز المحكمة على ملفات الأشخاص الذين ثبت ضلوعهم في التنفيذ. ومعظم هؤلاء سبق إيقافهم منذ سنوات وهم من المنتمين إلى تنظيم "أنصار الشريعة" المصنف تنظيماً إرهابياً في تونس.
وبالفعل، فقد كان من بين الأشخاص الذين حكمت عليهم المحكمة بالإعدام سائق الدراجة النارية التي قادت القاتل إلى مسرح الجريمة ورئيس الجناح العسكري لـ"أنصار الشريعة" ورئيس جهازها الأمني ورجل أعمال تسوغ السيارة التي استخدمت في الجريمة. وكلهم كانوا على علم مسبق بعملية اغتيال بلعيد وشاركوا في الإعداد لها. أما كمال القضقاضي، أحد منفذي الجريمة وهو ينتمي إلى التنظيم نفسه، فقد قتل خلال مواجهة مسلحة مع قوات الأمن في شباط (فبراير) 2014 بالقرب من العاصمة التونسية. وبمقتله دفنت الكثير من الأسرار.
كان البعض يأمل أن تقدم المحكمة معطيات حاسمة تسلط الضوء على كل الحلقات الأخرى المرتبطة بالقضية. لكن الأحكام لم تورط أي وجوه جديدة في الاغتيال ولم توجه إصبع الاتهام إلى أي طرف سياسي محدد.
ساد الارتياح لدى الجمهور الواسع لصدور الأحكام بعد طول انتظار. لكن الكثيرين لم يخفوا خيبة أملهم لأن قرارات القضاء لم تجب عن التساؤلات العديدة العالقة حول الأطراف السياسية التي قد تكون خططت للجريمة أو أوعزت باقترافها، سواء من الداخل أم من الخارج.
سياسياً، كانت الأحكام بمثابة رجع الصدى لأحداث بعيدة في الزمن وضعت البلاد وقتها على شفا الحرب الأهلية. ظروف الأمس ليست ظروف اليوم. لم تعد المواجهة بين الإسلاميين والعلمانيين تحتل صدارة الاهتمام مثلما كانت قبل سنوات. ولم يعد لـ"حركة النهضة" الدور المهيمن الذي كانت تستطيع بفضله التأثير في مجريات الأمور.
غير أن ردود الفعل لدى الأطراف السياسية ومجموعات المحامين المعنيين بالقضية أبرزت استمرار المواجهة السياسية والأيديولوجية بين الحركة وغرمائها من أقصى اليسار.
احتل المنابر الإعلامية طرفان متواجهان. كان هناك من جهة المحامون المدافعون عن الحق الشخصي لأسرة بلعيد ومعهم الناشطون السياسيون القريبون من حزب "الوطنيين الديموقراطيين الموحد" الذي كان ينتمي إليه بلعيد.
رحب هؤلاء بالأحكام الصادرة التي عززت شعور الارتياح لديهم اعتباراً للبدء في كشف حقيقة الاغتيال، وبددت شكوكهم في جدية القضاء في معالجة هذا الملف بعد التغييرات التي أدخلت على الأجهزة المشرفة على التحقيق خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة.
ولكنهم طالبوا أيضاً بتسريع المسار القضائي الهادف إلى تحديد الأطراف المسؤولة عن التخطيط للاغتيال أو هي أمرت، به أو على الأقل حرضت عليه، مجددين القول بوجود قرائن تشير إلى تورط "جهاز أمن سري" مرتبط بحزب "حركة النهضة" في القضية. وهو موضوع ما زال محل تحقيقات موازية قد تكون له الكثير من التداعيات مستقبلاً.
وكان هناك في الطرف المقابل المتحدثون باسم حزب "حركة النهضة" الذين رفضوا الاتهامات الموجهة إليهم، مؤكدين أن الأحكام برّأت ساحتهم تماماً ونهائياً.
هذا التباين في المواقف بين الطرفين كان بالطبع منتظراً. لكنه ما كان لافتاً هو استمرار حدة الاستقطاب بين الجانبين السياسيين المتقابلين، رغم مرور أكثر من 11 عاماً على عملية الاغتيال.
قد لا يكون من السهل أن تندمل الجروح التي تتسبب فيها الاغتيالات السياسية حتى بعد أن تصدر بشأنها أحكام قضائية. لكن البون الأيديولوجي الذي لا يزال قائماً بين الإسلاميين وأقصى اليسار يبرر خشية البعض من أن تعيد الأحكام إلى السطح مظاهر التوتر بين الطرفين لا أن تقلل منها.
من المهم جداً أن يوضح القضاء إن كانت هناك أطراف سياسية وراء اغتيال كل من شكري بلعيد والقيادي القومي محمد البراهمي الذي اغتيل بدوره في تموز (يوليو) 2013، وإن كان القضاء سوف يؤيد حكمه بالقرائن الملموسة وليس بالشبهات السياسية.
ومهما يكن من أمر فإن تسليط الأضواء نهائياً على كل الحلقات المرتبطة بالاغتيالين من شأنه التقدم بالبلاد أشواطاً نحو دحر شبح الإرهاب والعنف السياسي عبر كشف خيوطه كافة من دون لبس أو مواربة.
كما أن ذلك من شأنه أن يثبت القناعة بأن التصفيات الجسدية تشكل حوادث شاذة واستثناءات طارئة في تونس وليست من مميزات الحياة السياسية فيها، وذلك مهما كانت الخلافات التي تشق صفوف الفاعلين فيها، بعدما زعزعت الاغتيالات هذه القناعة.
صحيح أن تونس اليوم تبدو، بعد 11 عاماً من مقتل بلعيد والبراهمي، بعيدة عن شفا العنف السياسي، بخاصة بعدما استردت أجهزة مقاومة الإرهاب في الدولة عافيتها.
لكن البلاد ما زالت تحتاج إلى جملة من الإجابات الشافية، ليس فقط حول الاغتيالينن بل حول قضية أوسع وهي قضية تسفير مئات من الشباب التونسي بعد 2011 للمشاركة في الحرب في سوريا (مروراً في بعض الحالات بليبيا) من أجل القتال إلى جانب التنظيمات الجهادية هناك. من المهم أيضاً بهذا الخصوص تحديد هوية الأطراف السياسية التي قد تكون ساعدت المتطرفين السلفيين على تنظيم صفوفهم وممارسة أنشطتهم في تونس وعبر الحدود بعد 2011.
عملية التسفير قضية أمن قومي تونسي بامتياز. معظم ضحاياها كانوا في سوريا حيث ساهم المجندون التونسيون في تأجيج الحرب الأهلية هناك. ولكن الموجات الارتدادية لعمليات التجنيد للعناصر التونسية المتطرفة امتدت لاحقاً إلى أماكن أخرى في المنطقة والعالم، من بينها تونس نفسها، وذلك من خلال العمليات الإرهابية التي شهدتها البلاد عامي 2015 و2016.
بالإضافة إلى ذلك، تسبب تورط تونسيين في العنف والإرهاب في الإضرار بسمعة تونس وأهلها في الخارج إضراراً فادحاً. وستحتاج البلاد إلى وقت طويل كي تتخلص من هذا الوصم المشين.
تبقى هناك أيضاً حاجة لفهم الأسباب العميقة وراء الهشاشة النفسية والاجتماعية التي جعلت بعض الفئات في تونس قابلة للانسياق وراء دعاة التطرف. وإن صدرت خلال الأعوام الأخيرة دراسات (بمستويات مختلفة من الجدية والصدقية) حول الدوافع والخلفيات التي جعلت شباباً تونسياً يلتحقون بالتنظيمات الإرهابية، فإن الفهم الكامل لجذور المشكل لا يزال ناقصاً ومن دونه لن تكون تونس وحياتها السياسية بمأمن من الهزات في المستقبل.
ولعل الأحكام الصادرة في قضية بلعيد خطوة أولى في مسار الفهم والإدراك للدوافع التي ساهمت في تحريك أنشطة الإرهاب والتطرف في الماضي، ما سوف يساهم مستقبلاً في تحصين تونس ضد كل التحديات الأمنية الداخلية والخارجية التي قد تهدد استقرارها.
وحتى إن استطاعت الأجهزة الأمنية في الوقت الحالي احتواء مخاطر الإرهاب والعنف السياسي، فإنه لا يزال هناك جهد إضافي لا بد من أن يُبذل على الصعيد الداخلي نحو التهدئة وتخفيض منسوب التوتر الكامن في النفوس.
جانب من المشكل في هذا المجال يتعلق بعدم قدرة الكثير من الأطراف السياسية على تجاوز الماضي بعثراته وزلاته. والجدل الحاد حول قضية بلعيد انعكاس لحالة الريبة وانعدام الثقة التي لا تزال تشق صفوف الطبقة السياسية، وقد غذّتها الاغتيالات السياسية والإرهاب.
منفصلاً عن ذلك، ما زال يتردد على الألسن أحياناً مطلب "المصالحة الوطنية". ولكن هذا المطلب لم يتحقق إلى حد الآن في غياب الرؤية الواضحة والإجماع حوله. واللافت للنظر في تونس أن معظم الفاعلين السياسيين دأبوا منذ 2011 على التنظير لمبدأ "المحاسبة" أكثر من دفعهم نحو المصالحة. في المقابل بقيت المصالحة هدفاً تنشده عادة القوى المقصاة من السلطة وليس تلك التي تمتلك الأغلبية التي تسمح لها باتخاذ القرار، ما جعل تلك الدعوات قليلة التأثير في مجريات الأحداث.
لم يختلف الأمر كثيراً هذه المرة بدعوة "حركة النهضة" في بيانها الأسبوع الماضي إلى "فتح صفحة المصالحات الكبرى" في تونس. وكان يمكن لمثل هذا الموقف لو اتخذته الحركة بوضوح قبل سنوات خلت أن يشكل منعطفاً ذا بال. ولكن الوضع يختلف اليوم على كل الأوجه، خاصة باعتبار الجدل القائم حول اغتيال بلعيد.
لا تبدو المصالحة الشاملة في الوقت الحالي من بين الأولويات ضمن الأجندات السياسية السائدة. أضاعت الطبقة السياسية بعد 2011 فرصة تحقيق المصالحة، إذ غاب الاقتناع الحقيقي بهذا المبدأ لدى أصحاب القرار ومعظم الأحزاب الحاكمة التي اكتفت لسنوات بتصريحات ومبادرات ظرفية ومقايضات انتهازية لم تنه مسار تصفية الحسابات مع من سبقوهم في الحكم.
خسرت البلاد بذلك الكثير من الوقت ومن إمكان مساهمة مختلف الأجيال في مشروع إعادة البناء على أساس تراكمية الإنجاز.
ما زال الطريق بعيداً، بل إن قضية المصالحة تبدو أكثر تعقيداً اليوم منها في الأمس. لكن لا مفر في المستقبل، من أجل ضمان استقرار البلاد ونمائها، من بروز ثقافة جديدة تبني الجسور وتجفف منابع العنف السياسي بكل أشكاله.