بين 12 و16 نيسان (أبريل) الجاري، أربعة أيام عادت خلالها عاصمتان أوروبيتان إلى أيام فرانشيسكو فرانكو وبينيتو موسوليني. وإلا كيف يصف المرء عملية إغلاق مؤتمرين كبيرين بالقوة في برلين وبروكسل؟ كان ذلك انتهاكاً لحقوق التعبير والاجتماع، وإعلان حرب على مجموعة من الناس تتبنى مواقف مختلفة للسلطات يجب أن تخجل منه أي دولة ديموقراطية.
لم ينطوِ كمّ الأفواه هذا على تحيز سياسي. فالمؤتمر الأول نظمه يساريون يهود وعرب وأوروبيون في برلين دفاعاً عن غزة. أما الثاني، فأقامه في بروكسل "القوميون المحافظون" من يمينيين ويمينيين متطرفين. ثمة فارق نسبي في القسوة التي لقيها كل منهما. ولكن الفجوة في التغطية الإعلامية أكبر بكثير.
قلما حظي المؤتمر الأول بخبر صغير، ولولا الوسائط الاجتماعية لما سمع به كثيرون. أما الثاني فكاد الاهتمام به يسبق ذاك المخصص لغزة وأوكرانيا معاً!
تعاملت السلطات الألمانية مع مؤتمر برلين بفظاظة وصفها سياسي جنوب أفريقي يهودي بـ"الفاشية". وحُرمت وجوه معروفة من المشاركة فيه. لم يُسمح بدخول البلاد لكل من يانيس فاروفاكيس وزير المالية اليوناني الأسبق والمدافع الشجاع عن الحق الفلسطيني، والدكتور غسان أبو ستة الجراح البريطاني من أصل فلسطيني الذي انتُخب أخيراً رئيساً لجامعة غلاسكو الإسكتلندية المهمة. أراد التحدث عن تجربته كجراح متطوع في مستشفى الشفاء الغزاوي لأربعين يوماً ونيف تحت القصف الإسرائيلي، إلا أنهم أوقفوه في المطار وقالوا له عد من حيث جئت.
أما عمه الدكتور سلمان أبو ستة (86 عاماً) الذي كان أول المتحدثين عبر اتصال بالفيديو، فيعتبرونه محرضاً على كراهية اليهود! صوته وصورته حفزا 900 شرطي على التعجيل بتنفيذ حكم الإعدام بالمؤتمر قبل أن ينتهي من ورقته. اقتحموا القاعة وقطعوا التيار الكهربائي حتى يصادروا حقه في ممارسة حرية التعبير في بلد ديموقراطي. وادعت السلطات أنها خشيت إطلاق "خُطب معادية للسامية، تمجّد العنف وتنفي حصول المحرقة النازية" كالتي ضمّنها المؤرخ المعروف، مقالة أعرب فيها عن تفهمه أسباب "طوفان الأقصى". لم نجد أثراً للمقالة. لكنها ليست بالضرورة مُتخيلة، كهذا التوصيف لمحتوى خارج عن المألوف من باحث بمستواه. أما الحساسية الألمانية تجاه السمات المزعومة فطبيعية!
إن أي انتقاد لإسرائيل مهما كان صغيراً، هو في نظر ألمانيا، ضرب من معاداة السامية! وبات التكفير عن جرائم النازيين أشبه بمرض نفسي، وسلوك مخالف للقانون، في أحد وجوهه. إن غسل ذنوب الماضي بدماء نساء وأطفال يموتون بأسلحتها ودعمها السياسي لإسرائيل، يجعل برلين شريكة في انتهاكات تل أبيب ويبرر وقوفها في قفص الاتهام أمام محكمة العدل الدولية.
لكنّ ثمة أسباباً عميقة لهذه المغالاة في التأييد، تكمن في هاجس ألمانيا بوجوب التعويض عن الفظائع النازية. إنها ترى أن وجودها لا يكتمل إلا إذا كانت إسرائيل آمنة ومنيعة. شددت تصريحات ومواقف كثيرة ولا تزال تشدد على ذلك منذ أيام المستشارة السابقة أنجيلا ميركل. والمؤتمر عُقد في سياق مستنفر سلفاً لتأييد إسرائيل غالبة أو مغلوبة. هذا ما تدل إليه مواقف الإعلام، والقوى السياسية، بما فيها المتطرفة التي صارت تحاول التخلص من تهمة معاداة السامية بإلقائها على كاهل المسلمين. والواقع أن هذه النزعة العنصرية ليست "مستوردة" جلبها الأجانب كما يدعي المتشددون المعادون للمهاجرين، إذ كشفت الشرطة الفدرالية أن جماعات أقصى اليمين كانت مسؤولة عن 88 في المئة من الحوادث التي تجلت فيها معاداة السامية في عام 2022.
وهذا الزيف ينطلي على حكومة أولاف شولتس التي حظرت بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر) الاحتجاجات المناهضة للحرب على غزة، بذريعة مسيئة هي أنها قد تشحذ مشاعر المسلمين، فيحرضون على معاداة السامية، وكأنهم يكرهون اليهود بالفطرة!
بذلك تكون السلطات قد وقعت في فخ المتطرفين الألمان والأوروبيين ممن يجهلون أن معاداة السامية لا تختلف في جوهرها عن معاداة الإسلام (الإسلاموفوبيا). إلا أن جهل أشخاص، مثل سويلا برافرمان وزيرة الداخلية البريطانية السابقة، أو تجاهلهم، يدفعهم إلى تبني معاداة الإسلام بقصد محاربة معاداة السامية، ويشيعون أن كراهية اليهود، وليس الاحتلال والتشريد والإبادة، هي التي تؤلب أنصار فلسطين ضد دولة هي "حمل وديع"!
وبرافرمان شاركت في مؤتمر بروكسل الذي قرر عمدة المنطقة منعه. غير أنه استأنف في اليوم التالي أعماله بعدما أجازت المحكمة ذلك. حاول عُمد مناطق مختلفة في العاصمة البلجيكية اتخاذ موقف من المؤتمر من شأنه أن يرفع أسهمهم استعداداً للانتخابات المزمعة في غضون أشهر. إلا أنهم "سجلوا هدفاً" في مرماهم، على حد تعبير نايجل فراج كبير الشعبويين البريطانيين، لأنهم أظهروا أنهم لا يحترمون الحريات الأساسية كيساريين أو ليبراليين معارضين للعنصرية. كما أن غلطتهم ساهمت بترويج أخبار الجلسات على نطاق أوسع مما كانت ستؤدي إليه مشاركة فيكتور أوربان رئيس الوزراء الهنغاري ونظيره البولندي السابق ماتيوش مورافيتسكي وإريك زيمور المرشح الرئاسي الفرنسي السابق. واستقطب تهجمهم على الاتحاد الأوروبي ودعوتهم إلى وضع حد للعمل على توحيد أوروبا، ومكافحة "أسلمة القارة" المزعومة، وعداؤهم الصريح للمثلية، اهتماماً غير قليل.
ندد رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك بتعطيل المؤتمر، ربما إرضاءً لبعض أعضاء حزبه. وحذت نظيرته الإيطالية جيورجيا ميلوني حذوه. إلا أن الدفاع الأقوى عنه جاء من القيادي اليساري فاروفاكيس الذي قال: "إنني لأكره أن يُمنع أي شخص مثل نايجل (فراج) من التحدث فقط لأنه قد يزعجني، أنا وآخرون".
أوروبا المنقسمة على ذاتها تتخبط وتخون مبادئها. تغير العالم، وولّت أيام الإمبراطوريات. وأصبحت الدول تدفع في الداخل ثمن الأخطاء التي ترتكبها في الخارج. هكذا تندد أصوات في ألمانيا بهبوطها "إلى درك متدن جديد" جرّاء تأييدها المطلق لإسرائيل. وتحيزها يحملها على التفريط بقيم حقوق الإنسان التي كانت تتباهى باحترامها عالمياً. وهي لا تشوه صورتها في الخارج فقط، بل تنسف مكانتها المهمة كقوة ناعمة توسطت سابقاً في عمليتي تبادل رهائن بين إسرائيل و"حزب الله".
تبدو اليوم تابعة مخلصة لأميركا لجهة الحرص على استمرار المذبحة وقتل الفلسطينيين جوعاً. والاحتجاجات غير المسبوقة أمام بعثاتها الدبلوماسية في الولايات المتحدة وإيرلندا، تدل إلى أنها سجلت "أهدافاً كثيرة" في مرماها.
ارتدادات الانحياز الكامل لإسرائيل تعمّق الشرخ الموجود سلفاً بين أميركا ووراءها بريطانيا وألمانيا، من جهة، والعالم كله من جهة أخرى. وعندما يقف "الغرب مقابل ما تبقى من الدول".. فمن الذي سيربح في نهاية المطاف؟