بعد عشرين سنة من قيامه، أثبت النظام الطائفي في العراق أنه عاجز عن بناء دولة حقيقية قادرة على أن تنأى بنفسها عن صراع شريكي التسوية السياسية فيه "الولايات المتحدة وإيران"، بقدر ما جعل من العراق ساحة لتصفية الحسابات بينهما، وأغناهما عن الصدام المباشر حين صنع أسباباً كثيرة يكون العراق من خلالها مركزاً للتوتر، منها أساساً محاولته إضفاء شرعية على الميليشيات التابعة للحرس الثوري والتي جعلت من العراق جبهة أمامية للصراع. كلما أرادت إيران الضغط على الولايات المتحدة أمرت ميليشياتها باستئناف عمليات قصف القواعد الأميركية في سياق المطالبة برحيل القوات الأجنبية، وهو ما يشكل دافعاً للولايات المتحدة لقصف مواقع في العراق يُشتبه في أنها مصادر إطلاق الصواريخ. حرب بين طرفين يدفع ثمنها طرف ثالث ليست له مصلحة فيها إلا إذا صدقنا حكاية المقاومة الإسلامية التي يتم تفعليها وفق توقيتات سياسية لا تتصل أهدافها بالمفهوم الحقيقي للمقاومة. منطقياً فإن العراقيين يمكن العثور على سبب لمقاومتهم إذا كانت موجهة ضد الهيمنة الإيرانية. أما عداها فإنه كلام سائل ليس له معنى سوى ذلك المعنى الذي يسعى من خلاله النظام الطائفي إلى تكريس وجوده والذي يمكن اختصاره بعبارة "الدفاع عن المذهب". وهي عبارة يُقصد بها الدفاع عن إيران باعتبارها زعيمة المذهب الشيعي كما يتم إشاعته، وهي المكانة التي كانت مدينة قم تسعى إلى الاستيلاء عليها بدلاً من مدينة النجف التي لم تتمكن إيران في الماضي من الاستيلاء عليها، بالرغم من أن سادة القرار في حوزتها الدينية كانوا دائماً من الإيرانيين.
محو العراق هو الهدف
ومن المستبعد أن تكون الولايات المتحدة قد قررت قبل أن تغزو قواتها العراق أن تبني دولة حقيقية فيه على أنقاض الدولة التي كانت تفكر دائماً في تدميرها. ما حدث في اليابان وفي ألمانيا الغربية السابقة كان أمراً مختلفاً. فالعراق جرى تدميره بناءً على خطة لا علاقة لها بما أشيع من أنه يشكل خطراً على الكرة الأرضية وما إلى ذلك من مزاعم تافهة ورخيصة. كان محو العراق من الخريطة السياسية للشرق الأوسط مطلباً أميركياً هو في الباطن مطلب إسرائيلي قبل أن يتزعم جورج بوش الابن الحملة على صدام حسين بسنين. أما وقد نجح الأميركيون في إزاحة صدام حسين فقد كان عليهم أن يبحثوا عن شكل للنظام الذي سيحل بدلاً من نظامه لن يصل إلى المحتوى الذي يمثل قوة العراق الحقيقية، باعتباره دولة يمكن أن تغنيها ثروتها عن الاعتماد على الآخرين. لذلك وجدوا في النظام الطائفي النموذج الذي يستطيعون تمريره تحت مظلة تعددية ديموقراطية. وهي تعددية كاذبة غلّبت التطرف المذهبي الديني على الوعي السياسي الوطني. كان تدمير العراق حاضراً في كل خطوة اتخذتها سلطة الاحتلال الأميركي في بناء دولة العراق الجديد. وإذا ما كانت هناك فكرة لتقسيم العراق بين مكوناته "الشيعة والسنة والأكراد"، وهو ما يعني نهاية لدولة اسمها العراق، فإن الفكرة التي وجدت طريقها إلى الواقع قامت على المحاصصة حسب النسب الافتراضية. ذلك ما وهب الأحزاب الشيعية الحصة الأكبر في الوليمة الأميركية.
الوقوف الحائر بين الصديق والراعي
لا يزال العراق بنظامه الطائفي يسير على السكة الأميركية وإن بدا معادياً لها من خلال نشاط الميليشيات التابعة لإيران. وهو ما يعني أنه لم يفر من القدر المرسوم له. في ذلك ما يطمئن الولايات المتحدة التي أرادته بلداً مدمراً وما يطمئن إيران إلى أنها إضافة إلى انتعاشها الاقتصادي، فإن حربها الدائمة على العالم ستظل مفتوحة لكن ليس من خلال أراضيها. ربما لم يفاجأ رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني حين لقائه بالرئيس الأميركي جو بايدن بالإملاءات الأميركية. ولكنها إملاءات لا تتعلق أصلاً بالهيمنة الإيرانية التي يبدو أن الإدارة الأميركية لا تجد فيها ضرراً على مصالحها. كانت إملاءات تتعلق بعمل الحكومة الداخلي. ذلك ما تفاعل معه السوداني ايجابياً. لقد بدا واضحاً للسوداني أن هناك مَن يتابع شؤون حكومته أميركياً من غير أن يحرجه بالتطرق إلى الموضوع الإيراني. ذلك موضوع أكبر منه وهو لا يملك فيه رأياً إلا تلك الآراء التي يطلقها بين حين وآخر في مديح الأخوة التاريخية بين العراق وإيران. ولأن السوداني يسير على خطى سابقيه من رؤساء الحكومات السابقة، وبخاصة زعيمه السابق يوم كان عضواً في حزب الدعوة "نوري المالكي"، فإنه يدرك جيداً أن حكومته غير قادرة على اتخاذ قرار سيادي واحد وأن تراجعها عن قراراتها ممكن إذا ما قوبلت تلك القرارات باعتراض أميركي أو إيراني. وفي كل الأحوال فإن الحكومات العراقية المتتالية لم تفكر يوماً ما في إزعاج الصديق الإيراني. أما بالنسبة للراعي الأميركي فإنها كانت حريصة على ألا تمس حساسيته المرهفة.
في مديح دولة على الورق
ذهب محمد شياع السوداني إلى واشنطن خالي الوفاض. كان لديه هدف واحد هو السماح له بأن يلتقي الرئيس بايدن ولو لعشر دقائق. أما ما سمعه هناك فإنه لا يتعلق بمحتوى الرسالة التي أُشيع أنه كان يحملها من القيادة الإيرانية إلى الإدارة الأميركية والتي تتعلق بالنزاع الإيراني الإسرائيلي. تلك مسألة هي أكبر من منصبه. فالطرفان لا يريان فيه ساعي بريد مناسباً لهما. فكر السوداني بصوت عال بعد زيارته وقال: "بما أن الولايات المتحدة لا تملك قوات قتالية في العراق فلا ضرورة للمطالبة برحيل القوات الأجنبية". كان ذلك مطلباً سحبته إيران مضطرة بعدما وصلت علاقتها بإسرائيل إلى مستوى القصف المتبادل. يعرف الخصمان أن حجم الرجل محدود في السياسة العالمية، فهو يقف على رأس دولة لا تزال على الورق وهو لا يملك برنامجاً ينتقل بتلك الدولة من الورق إلى الواقع. وتلك مشكلة عراقية بالرغم من أنها كانت صنيعة تواطئهما.