لا تزال "دولة الخميني" تؤمن بلعبة الأضداد الفكرية والمذهبية، والتوافق ظاهرياً وباطنياً مع خصائمها، في إطار براغماتية نفعية تمنحها تربحاً سياسياً، يمدّد هلالها الشيعي، ويمنح مشروعها الصفوي هيمنة تضمن لها البقاء والاستمرارية، عبر دعم الأذرع الأصولية الردايكالية السنّية والشيعية التي تخوض نيابة عنها حرباً بالوكالة.
العلاقة الممتدة بين نظام الملالي والتنظيمات الإسلاموية المتطرّفة، ابتداءً من تنظيم "القاعدة" وجماعة "الإخوان المسلمين"، وتيارات السلفية الجهادية المتعددة، كفيلة بفضخ خيوط المؤامرة التي تنتهجها إيران من استغلال تنظيم "داعش"، في تأجيج التوترات الطائفية في سوريا والعراق واليمن، وعرقلة أية حلول مطروحة من شأنها تُصيغ تفكيك المشهد المتوتر.
الحقيقة التي لا يمكن التغافل عنها، تتمثل في أنّ النظام الإيراني، تمكّن عن طريق تنظيم "داعش" من تعزيز قوته ونفوذه على المستوى الإقليمي، وإضفاء نوع من الشرعية على تواجد ميليشياته الشيعية المسلحة، وزيادة مساحة دورها السياسي وتمركزها العسكري في العمق السوري والعراقي واليمني.
توافق الدولة الإيرانية مع التنظيمات الأصولية السنّية التي تناهضها إيديولوجياً ليست بدعة مستحدثة خلال المرحلة الراهنة، لكنها متعمقة منذ الثورة الخمينية عام 1979، من أجل الاستفادة منهم في مشروع تدمير"الإسلام السنّي"، واستغلالهم كأوراق ضغط مع خصومها الدوليين والإقليميين، فضلاً عن تحييدهم عن النيل منها أو التصادم معها، مثلما فعلت من قبل مع قيادات تنظيم "القاعدة" الذي ترعرع داخل أراضيها، ودعمته مالياً وعسكرياً.
وكذلك موقفها الداعم تاريخياً لجماعة "الإخوان المسلمين"، التي تعتبرها حليفاً استراتيجياً، ولا يمكن تناسي تحركاتها داخل الأراضي المصرية عقب سقوط حكم الرئيس حسني مبارك عام 2011، ووصول "الإخوان" إلى السلطة، وتوافقهما عن طريق "الحرس الثوري"، في محاولة تفكيك المنظومة الأمنية والعسكرية، وإحلالها بمؤسسات جديدة أقرب في استراتيجيتها لمنظومة "الحرس الثوري"، وفقاً للوثائق التي كشفت عنها النيابة العامة بالقاهرة في كانون الثاني (يناير) 2016 .
العمليات المسلحة "الداعشية" التي استهدفت العمق الإيراني في كانون الثاني (يناير) الماضي، تحمل في ظاهرها تعدّياً على سيادة الدولة الإيرانية، لكن باطنها منح النظام ورجاله مجموعة من الأهداف أهمها، فرض الهيمنة على المشهد الداخلي، وإخماد موجة التظاهرات التي اندلعت في ظل التدهور السياسي والاقتصادي، فضلاً عن تذرعها بأنّها تقع ضمن نطاق الدول المهدّدة بجرائم التنظيم ونشاطه، ما يزيد من شرعية تواجدها العسكري في الداخل السوري والعراقي، لتجفيف منابعه ومنع تمدّد خلاياه على أراضيها.
لا نذهب إلى أنّ التفجيرات التي وقعت في الداخل الإيراني في المرحلة الأخيرة، أنّها تمّت برعاية وصناعة نظام الملالي ذاته، لكن لا نستبعد كذلك معرفته المسبقة بعملية التخطيط في ظل امتلاكه لمنظومة استخباراتية وأمنية قوية، ومن ثم تغاضيه عن أية ملاحقة للجناة قبل التنفيذ، للاستفادة القصوى من الحدث في تمرير أجندة أهدافه في العمق الإيراني وخارجه.
ثمة روابط قوية بين تحركات النظام الإيراني وتمركزات التنظيم الداعشي، عكستها تصريحات نُسبت إلى قائد الحرس الثوري الإيراني الأسبق، محمد علي جعفري، من أنّ ظهور "داعش" ساهم في تعزيز سطوة إيران على سوريا والعراق عبر الميليشيات المسلحة المختلفة، وأنّه لو تمّ تدمير "داعش" منذ البداية، لم تكن أمام إيران أية فرصة لتجهيز جبهة المقاومة المسلحة في كل أنحاء المنطقة.
كذلك لا يمكن تجاهل التصريحات التي أدلى بها القائد الأسبق لقوات الحرس الثوري، محسن رضائي، لوكالة "أنباء فارس"، التي قال خلالها، إنّ الاستخبارات الإيرانية تُعتبر أقوى استخبارات في منطقة الشرق الأوسط، وإنّ "فتح أسرار ووثائق تنظيم "داعش" في المستقبل القريب سيتبين أننا قد تغلغلنا في عمقه، وأننا لم نكن نقاتله فقط".
الدعم الإيراني للتنظيم الداعشي، ليس مجرد أكذوبة أو ادعاء، لكنه حقيقة مؤلمة أكّدته تقارير أمنية عراقية ومصرية، على مدار السنوات الأخيرة، مبينة إمتلاك واستخدام عناصر التنظيم لأسلحة إيرانية الصنع، وحمل بعضهم لجوازات سفر وتأشيرات إيرانية، وفقاً لبيان صادر عن ورازة الدفاع العراقية في نيسان (أبريل) 2022، فضلاً عن بيانات المتحدث العسكري المصري من ضبط أسلحة إيرانية بحوزة العناصر التكفيرية داخل سيناء، وفي مزرعة تابعة للجناح المسلح لجماعة "الإخوان" في محافظة البحيرة.
التجاوزات الإيرانية بدعم الجماعات الأصولية المتطرفة، دفعت الجانب المصري إلى اتخاذ إجراءات وتحقيقات موسّعة حول العثور على الأسلحة الإيرانية في أيدي عناصر جماعة "أنصار بيت المقدس"، الموالية لتنظيم "داعش" في سيناء، بين عامي 2016 و2018، وظهور بعضها في الفيديوات الترويجية التي أطلقها تحت عنوان "صاعقات القلوب".
عملاء التنظيم الداعشي، لم يكتموا أسرار علاقتهم المشبوهة وصفقاتهم التي تمّت مع رجالات "دولة الخميني" في سراديب الليل المظلم، وفقاً للتحقيقات التي أجرتها السلطات الكويتية مع بعضهم في حزيران (يونيو) 2016، مبينين مشاركتهم في الاجتماعات والترتيبات التنسيقية بين التنظيم والمخابرات الإيرانية، فضلاً عمّا كشفته "المخابرات الهندية" حول طريقة استقطاب المقاتلين الهنود إلى صفوف التنظيم في عمليات معقّدة، تبدأ من معسكرات التأهيل الفكري والتنظيمي، في مدينة أصفهان الإيرانية، ومنها إلى مؤسسات التدريب العسكري، ومن ثم نقلهم إلى مناطق الصراع في سوريا والعراق واليمن وأفغانستان، بوثائق سفر إيرانية، في إطار استراتيجية رامية إلى توسيع نفوذها الإقليمي.
تعمّد إخفاء المعلومات والحقائق، يمثل نهجاً فكرياً وعقائدياً لدى "دولة الفقيه"، من خلال توظيفها لـ"فقه التُقية" في التلاعب بالخصوم والأطراف المحيطة بها، وتمرير أجندتها السياسية والعسكرية والفكرية، ومن ثم تظاهر الدولة الإيرانية بالمشاركة في مواجهة تنظيم "داعش" ومكافحته عسكرياً في سوريا والعراق، لا يمنعها مطلقاً من استخدام "أبناء البغدادي" والدخول معهم في توافقات، أو دعمهم بشكل مباشر أو غير مباشر بما يضمن تحقيق مآربها.
*كاتب مصري، وباحث في شؤون الجماعات الإرهابية