يشهد الأردن المحاط بصراعات يبدو أن لا آخر لها، قفزة إصلاحية كبيرة يمكن وصفها بـ"انقلاب" على نهج رسمي ظلت الخشية فيه من الانفتاح السياسي تسيطر على المشهد وتديره.
ورغم أن حديث الدولة بشأن الإصلاح السياسي صعد إلى الواجهة بشكل لم يحصل من قبل، عندما أوعز الملك عبد الله الثاني قبل نحو 3 أعوام بتشكيل اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية التي أفرزت قانونين جديدين للانتخاب والأحزاب وأجرت تعديلات دستورية عدة، إلا أن الأمر ظل محط شكوك كثيرين في أوساط المعارضة، وكذلك في الشارع الأردني.
وكانت الانتخابات النيابية التي أجريت الثلاثاء الماضي، بمثابة الاختبار الأول والأكثر أهمية لمدى جدية مراكز صنع القرار في صناعة مشهد مختلف يحطم جزءاً كبيراً من الصورة النمطية التي لا تثق بالخطاب الرسمي، وتحديداً الخطاب المتعلق بعملية الإصلاح، باعتبار أن ما تسمى قوى الشد العكسي أو "الدولة العميقة" بمتنفذيها، لا تؤمن أصلاً بالإصلاح السياسي على وجه الخصوص، بوصفه مغامرة قد تقلب موازين المشهد بما لا ينسجم مع التوجهات العليا للدولة، فضلاً عن الخشية من اهتزاز سطوتها في إدارة المشهد بتفاصيله كافة.
في الانتخابات، كان مهماً جداً بالنسبة إلى الدولة أن تظهر أعلى درجات النزاهة والشفافية، وتتصدى بحزم لكل ما يمكن أن يمس العملية الانتخابية، لتتجنب ما يظهر في كل انتخابات من أحاديث عن "هندسة الانتخابات" والدفع لإيصال مرشحين معينين على حساب آخرين يتم إقصاؤهم بطرق عدة، وهو ما وسّع على مدى دورات انتخابية عدة هوّة ثقة الأردنيين بالانتخابات وأطاح نسب الاقتراع التي من المتوقع أن تستعيد رونقها إن بقي الإيقاع الإصلاحي يسير بخطى ثابتة تعكس جدّية لا تراجع عنها.
وبالعودة إلى الانتخابات الأخيرة، فمن المنصف القول إنها أثبتت جدية الدولة وقناعتها بنهج سياسي جديد، وهو ما تجلى بردود فعل الأردنيين على مختلف المستويات الشعبية أو السياسية والحزبية بما فيها المُعارِضة، إذ أجمع الكل على نزاهتها وعدم وجود أي تدخلات في سيرها، الأمر الذي يؤكده أيضاً الاكتساح الذي حققه حزب "جبهة العمل الإسلامي" الذراع السياسية لجماعة "الإخوان المسلمين"، بعد اعتقادات راجت بكثرة عن أن ثمة "هندسة" للانتخابات في مطابخ صنع القرار ستدفع إلى فوز مرشحي أحزاب صُنعت لتكون نداً للحزب الإسلامي.
وليس سراً خافياً أن مراكز صنع القرار بالتأكيد لا يسعدها فوز الحزب الإسلامي أو غيره من أحزاب المعارضة التقليدية بأكثرية المقاعد، فيما تميل إلى فوز أحزاب تتماهى مع السياسات الرسمية ومعظم قيادييها محسوبون على ما يسمى أردنياً بـ"السيستم" الرسمي، لكن ما يسجل هنا هو أن الأحزاب جميعها تُركت أمام "منافسة شريفة" ليثبت كل منها علو كعبه بجدارته.
ولأن غالبية الأحزاب لا تزال حديثة وتشكلت قبل نحو عام واحد فقط، فإن الانتخابات الحالية بالنسبة إليها هي مناسبة مهمة لتقرأ نفسها جيداً وتعد العدّة لانتخابات أخرى تكون فيها قد جذرت اسمها وانتشارها على نحو أكبر، بما يؤهلها بالفعل لمجاراة الحزب الإسلامي ذي الباع والخبرة الطويلتين في العمل السياسي والانتخابي، والذي يمتلك قاعدة شعبية واسعة في الأردن مستنداً إلى البعد الديني.
ثمة ترقب للطريقة التي ستدار بها المرحلة المقبلة على الأقل، فرغم أن الإسلاميين بثوا رسائل طمأنة بأن أجندتهم وطنية وأنها لا تخرج عن مصالح الدولة، إلا أن ثمة ملفات عديدة، سواء في ما يتعلق بالسياسة الداخلية أو الخارجية، قد تخلق حالة من الصدام وتعيد التوترات إلى الواجهة. ولعل الأهم بالنسبة إلى صناع القرار هو السياسة الخارجية التي عادة ما تتخذ نهجاً مغايراً تماماً لما ينتهجه الإسلاميون، وتلك السياسة هي خط أحمر والاقتراب من ملف سياسات المملكة وتحالفاتها في الإقليم والعالم سيواجه بحزم.
لكن مطبخ القرار الأردني، كما يبدو، يسعى بكل جهده إلى صناعة مشهد ديموقراطي يكون فيه الإسلاميون جزءاً بارزاً مع أن يفهموا جيداً أصول اللعبة ويتحركوا فقط في المساحة التي تبقي المشهد في وضع سليم، لا سيما إذا توسع نفوذهم الانتخابي والبرلماني وصار بإمكانهم لاحقاً تشكيل حكومة برلمانية، وهو ما سيتم التصدي له في أروقة صنع القرار خلال المراحل المقبلة، بعمل مدروس وهادئ يعاد فيه ترتيب البيت الداخلي للقوى الحزبية الجديدة، والدفع باتجاه تمكينها من التوسع الجماهيري وخلق ثقل لها يجعلها قادرة على إزاحة الإسلاميين "ديموقراطياً" من دون أي تدخل أو مساس أمني أو سلطوي مباشر.
خلاصة القول إن المملكة تمضي في اختبار تتجدّد فصوله من مرحلة إلى أخرى، ويستحق أن يهتم الجميع بالنجاح فيه، باعتباره نجاحاً وطنياً جامعاً يجعل الأردن في مكانة يُحسد عليها.