عاد ملف النزوح السوري إلى الواجهة مع تولّي الحكومة اللبنانية الجديدة مهامها، بعدما غاب لمدّة طويلة عن التداول والإعلام نتيجة الأزمة الاقتصادية وتلهّي اللبنانيين بأزماتهم التي باتت وجودية.
ومع ارتفاع معدّلات الفقر في المجتمع اللبناني لتلامس أرقاماً مخيفة، عاد الحديث عن التقديمات المادية والعينية التي تمدّ بها المنظمات الدولية اللاجئين؛ فما كان زهيداً لا يلفت نظر أيّ لبناني في السابق أصبح كبيراً، وأضحت هذه المساعدات التي ترسل بالعملة الأجنبية، ويتمّ صرفها على سعر مرتفع في لبنان، لافتة للمواطن اللبنانيّ الذي يحصل على مردود ماليّ مرتبط بالليرة المنهارة، في مقابل مبالغ وأرقام كبيرة أصبحت توزّع كمساعدات للاجئين.
ومع اقتراب فصل الشتاء المترافق مع مصاعب في مجال الدراسية والمحروقات الخاصّة بالتدفئة، والتي تُثقل كاهل معظم اللبنانيين، بدأ يشتدّ الحديث عن المساعدات العينيّة والتعليميّة التي يحصل عليها اللاجئون في وقت لم يعد اللبناني يمتلكها، سواء تجلّت بأقساط مدارس أو قرطاسية أو مازوت أو اشتراكات إنترنت، خصوصاً أن المجتمع المضيف لم يعد يتلقّى مساعدات تُذكر. ولا ننسى أن جزءاً كبيراً من المتوجّبات والضرائب تطال اللبنانيّ، ويُستثنى منها السوري لكونه لاجئاً.
ويمكن في هذا السياق تعداد العديد من القطاعات التي بدأت تفضّل اللاجئ على اللبناني، وأهمّها المستشفيات التي تنال مستحقّاتها مباشرة من المفوضية العليا لشؤون اللاجئين. في المقابل، عليها أن تنتظر مدّة طويلة لأخذ مستحقاتها من المؤسّسات اللبنانية الضامنة. أما مؤسّسات بيع المواد الغذائية والمحروقات فهي تجاهر بتفضيل التعامل مع المؤسّسات الراعية للسوريين على المؤسسات والأفراد اللبنانيين!
هذا الأمر أثير في جلسة مجلس النواب الأخيرة من قبل النائب جميل السيد، الذي قارن بين مساعدة الأسرة السورية، التي تبلغ 7 ملايين ليرة لبنانية وراتب أسرة جندي في الجيش اللبناني يبلغ مليوناً ومئتي ألف ليرة. وطالب السيّد بالإسراع بإيجاد تحرّك سريع، يقضي بإعادة النازحين إلى بلادهم أو إنشاء مخيّمات على الحدود بين البلدين تحت رعاية الأمم المتحدة.
وفي السياق، عاد "التيار الوطني الحر" إلى سابق عهده في هذه القضية، وهذه المرة تحت شعار الأزمة الاقتصادية، وعبر المقارنة بين وضع اللبناني والسوري، ليعود ويطرح مشروعه عن النزوح.
في المقابل، أشار البيان الوزاري إلى قضية اللاجئين بفقرة مقتضبة، يؤكّد فيها مُتابعة العَمل على عودة النازحين السوريين وتعزيز التواصل مع المُجتمع الدولي للمُساهمة بمواجهة أعباء النزوح السوري، مع الإصرار على عودة هؤلاء النازحين الآمنة إلى بلادهم، ورفض أيّ شكل من أشكال إدماجهم أو توطينهم، وتنفيذ ورقة السياسة العامة لعودة النازحين التي أقرّتها الحكومة اللبنانية وإعادة النّظر فيها إذا لزم الأمر.
والقصد من ورقة السياسة العامة هي الخطة التي أقرتها حكومة الرئيس حسان دياب في تموز العام الماضي قبل مدّة قصيرة من استقالتها، والتي لم توضع موضع التنفيذ، شأنها في ذلك شأن العديد من الخطط والمبادرات الدولية، التي كان آخرها المبادرة الروسية التي علّق العمل بها، نظراً إلى الخلافات الداخليّة والاعتراضات، فبقي الوضع كما هو في فوضى شاملة، كاملة، من دون إحصاءات ولا ضوابط، ولا تمييز بين العامل واللاجئ، إذ إن عدداً كبيراً من اللاجئين يستفيدون من المنظمات الدولية، وهم يعملون في لبنان، وجزء منهم موجود قبل الحرب في سوريا، بالإضافة إلى التراخي في تطبيق قواعد اللجوء مع العدد الأكبر من اللاجئين الذين يزورون بلدهم بشكل دوريّ، ويعودون إلى لبنان، حتى أصبح السؤال المطروح: ما الذي يدفع اللاجئ إلى العودة إلى بلاده ضمن هذه الإجراءات المتراخية وكميّة المساعدات التي يحصل عليها؟
وفي هذا السياق، يشير الخبير في السياسات العامة واللاجئين زياد الصائغ إلى أن المسؤولية المالية للاجئين السوريين هي لدى المفوضيّة العليا لشؤون اللاجئين، وهي رأت بعد التضخّم الكبير الحاصل في السوق اللبنانية زيادة التقديمات لتتناسب مع الوضع في لبنان.
ويؤكد في حديث لـ"النهار" أن هناك غياباً للسياسات العامة لدى الدولة للتعاطي مع هذا الملف، سائلاً عن منع عودة 300 ألف "نازح" سوري إلى القلمون الغربي، والزبداني، والقُصير، وهم كانوا أبدوا رغبتهم في ذلك.
وفي هذا الإطار، يطرح الصّائغ أسئلة عدّة. هل يستطيع كلّ من أراد العودة أن يعود في ظلّ اللوائح الاستنسابية التي تمّ تبادلها مع النظام السوري؟
هل هناك مناطق آمنة بالفعل في سوريا؟ وهل تحدّثت المبادرة الروسية عن هذه المناطق؟ ولماذا تمّ التراجع عنها ولم يعمل أيّ شيء في هذا السياق؟
من مَنَع تسجيل الولادات منذ سنة 2012، وهم لا يدرون بأن هذا الأمر يجعلهم مكتومي القيد، وبالتالي يحق لهم المطالبة بجنسيات لاحقاً؟
لماذا اعتماد سياسة الحدود المفتوحة، ما جعل الوجود في لبنان غير مضبوط وغير منظّم بعكس ما قامت به الأردن وتركيا؟ ولماذا لم يتمّ إنشاء مخيّمات إيواء مثل ما فعل عدد من البلدان؟
أما بالنسبة إلى خطة الحكومة، فمن هي الجهة في الدولة اللبنانية المسؤولة عن هذا الملف؟ أهي وزارة الداخلية أم وزارة الشؤون الاجتماعية أم وزارة الخارجية أم الثلاث معاً؟
إلى ذلك، يؤكّد الصايغ ألا جهة رسمية في الدولة اللبنانية تشرف على المساعدات، ولا أحد يهتمّ، لأن المنظومة بمجملها مستفيدة من هذا الأمر عبر توظيف أزلامها أو اختراع جمعيّات ومؤسّسات حصلت على الأموال تحت غطاء مساعدة اللاجئين.
ويضيف أنّه في أيّ حال يجب استعادة السِّمات التي حكَمَت منذ العام ٢٠١١ تعاطي الديبلوماسيّة اللبنانيّة مع أزمة "النازحين من سوريا"، فإذا هي قائمةٌ على الاستجداء التمويليّ، والتهويل التخوينيّ، والاستنفار الشعبويّ، والتبسيط التسطيحيّ. لكلٍّ من هذه السّمات دوره في البناء على فرضيّة أنّ ثمّة مؤامرة كونيّة لتوطين النازحين من سوريا في لبنان، مُروراً بالاستثمار الانتخابيّ للقِوى السياسيّة في فرضيّة هذه المؤامرة، خلوصاً إلى الاستنتاج بأنّ الوضع سليمٌ في سوريا والعودة آمنة من ممرّ التطبيع مع الدولة السوريّة (النظام).
وما ورد بعد عشرة أعوام في هذه "السياسة العامة لعودة النازحين" ينساق للمنطق ذاته، ويبلوِر السِّمات التي ذكرنا في النهج عينه من ناحية، مع تفادي مقاربة مسار ديبلوماسيّ بالتعاون مع الأمم المتحدة ومجلس الأمن من ناحية أُخرى، مع قصر التعاون معهما على المستوى الإنساني.
ويخلص الصايغ إلى أنّه لحلّ هذه المشكلة لا بدّ من ثلاثة أمور هي تنظيم الوجود عبر خلق داتا كاملة خاصّة باللاجئين، تحضير آليات العودة؛ وعلى الحكومة تحديد مرجعيّة لهذا الملف لتفاوض مع الجهات المعنية، خصوصاً مع المفوضية العليا لشؤون اللاجئين والأمم المتحدة والدولة السورية، إضافة إلى تنظيم تقاسم الأعباء.
ويختم الصايغ بالإشارة إلى أن إثارة قضية اللجوء من باب المساعدات هدفها خلق توترات بين الضيف والمضيف، تستفيد منه المنظومة الحاكمة لشدّ عصب أنصارها على أبواب الانتخابات النيابية.
وفي المحصلة، وبعيداً عن الشعبويّة والعنصريّة، أضحى لا بدّ من البدء بتنفيذ إجراءات عمليّة لحلّ هذه القضية، بالرغم من جميع الاعتراضات على ورقة السياسة العامة المقدّمة من الحكومة السابقة، إنّما تصحّ كأساس للانطلاق إلى حلّ عبر تعديلات عليها تساعد على التخفيف من وطأة الأزمة الاقتصادية، وتساعد على الاستفادة من التقديمات الدولية والاهتمام الدولي بهذه القضية.