"أم كلثوم" تنتصر للعرب رغم المآسي!
شريف صالح
تجاوزت حلقة الدحيح عن "أم كلثوم في باريس"، أكثر من مليوني مشاهدة، ووصفها عشرات المشاهدين بأنها "الأجمل".
اعتمد على أسلوبه المتعارف عليه، بدءاً من استهلال فكاهي وحوار مع الناقد الدكتور المهندس "سيد بسكوتة"، وهو يتحدث بسخرية عن أغانيها الطويلة.
وابتعدت الحلقة عن العرض التقليدي لمشوار حياتها، للتركيز على دورها الوطني. وبذلك لمست وتراً حساساً، في لحظة مأساوية يتعرض فيها العرب لحرب عدوانية منذ عام في فلسطين، ومنذ أسابيع في لبنان. وكأنه ما أشبه الليلة بالبارحة، حين وقعت هزيمة 1967، لكنّ الفارق كان موقف أم كلثوم النضالي الذي لخّصته الحلقة استناداً إلى كتاب كريم جمال "أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي".
اعتكاف وكفاح
لحظة النكسة اعكتفت "الست" في "بدروم" الفيلا الخاصة بها في الزمالك، وصمتت عن الكلام. ثم أعلنت تغيير برنامجها المعتاد وتخلّيها عن سهرة الخميس الأول من كل شهر، وجّهت نداءات تشجيع للجنود، وزارت جبهة القتال رغم خطورة ذلك على حياتها، وأطلقت حملة تبرعات ضخمة جمعت في وقت قياسي أكثر من 100 كيلو ذهب، وآلاف الدولارات والجنيهات، أقامت 24 حفلة في 24 مدينة مصرية، خُصصت بالكامل للمجهود الحربي، حيث زارت الإسكندرية ودمنهور وطنطا والمنصورة، ولم يتردّد جمهورها في التبرع بأغلى ما يملك.
زارت العواصم العربية مثل تونس والمغرب والسودان والكويت وبيروت ودمشق. ولعبت دوراً مؤثراً في تخفيف التوترات السياسية بينها، ويكفي أن نادي الوداد المغربي الشهير يحمل اسم أحد أفلامها، وفي تونس أُطلق اسمها على أحد الشوارع. كما غنت بصوتها لمدن عربية مثل بغداد والكويت.
فعلت كل هذا وهي تناهز السبعين من عمرها!
زيارة باريس
زار مدير مسرح الأولمبيا برونو كوكاتريكس، القاهرة عام 1966، للتعاقد مع فرقة شعبية تمثل مصر في مهرجان دولي، فاقترح عليه وزير الثقافة المصري ثروت عكاشة التعاقد مع أم كلثوم. بالفعل زارها للاتفاق على حفلتين، فطلبت 14 ألف استرليني، وهو مبلغ ضخم بمقاييس ذاك الوقت. تردّد في الموافقة لكن مع انتشار الخبر بين الجاليات العربية في فرنسا أدرك حجم شعبيتها الطاغية، فتعاقد فوراً على أن يكون الموعد في تشرين الأول/ أكتوبر عام 1967.
عند وقوع النكسة في حزيران/ يونيو 1967 علت أصوات الصحافيين تطالبها بالاعتذار، خصوصاً أن مسرح الأولمبيا استضاف فرقة إسرائيلية استهزأت بالعرب، يُضاف إلى ذلك قوة المنظمات الصهيونية هناك.
لكنها في قرارة نفسها فضّلت عدم ترك الساحة للعدو، وأعلنت التزامها بالعقد مع تأجيل الموعد إلى تشرين الثاني/ نوفمبر حتى تنتهي من جهود التبرعات في مصر.
تسابق آلاف العرب في فرنسا وأوروبا، وبعضهم كان يحجز رحلة الطيران مع ربطها بضمان تذكرة للحفل، والتي بدأت من 30 ووصلت إلى 300 فرنك في السوق السوداء، واضطرت إدارة المسرح لحجز تذاكر لمن يرغب في الوقوف لمدة 5 ساعات على أطراف القاعة التي لا تتسع لأكثر من 2200 كرسي.
الطريف أن 20% من التذاكر بيع لفرنسيين ويهود شرقيين مفتونين بها. وكان من أشهر الحضور العاهل الأردني الملك حسين، إضافة إلى 13 سفيراً عربياً.
قبل الحفل وخلال مؤتمر صحفي في فندق جورج الخامس، أعلنت الست أنها جاءت لواجب وطني ودعم الجنود المصريين في معركتهم ضدّ العدوان. وحاول مدير المسرح إقناعها بعدم تسييس الحدث، معترضاً أيضاً على مقدمة الإعلامي جلال معوض التي قال فيها: "اليوم تشدو كوكب الشرق في عاصمة النور باريس، وغداً بإذن الله تشدو في القدس المحرّرة". وهنا هدّدت أم كلثوم بإلغاء التعاقد، فاعتذر ورضخ.
الليلة الموعودة
في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر ازدحم الشارع المؤدي إلى مسرح الأولمبيا بطوابير تمتد إلى كيلو متر، المقاهي العربية ترفع صوراً كبيرة لأم كلثوم والأهرامات، منظمات صهيونية تهاجم، الشرطة السرّية في كل مكان.
أم كلثوم كعادتها تتلو بعض الآيات ثم تتقدّم مع فتح الستارة، فتفاجأت بعاصفة من التصفيق تدوي لـ8 دقائق مع انطلاق موسيقى "انت عمري" لعبد الوهاب، وفي الوصلة الثانية "الأطلال" للسنباطي، وبعد حوالى 5 ساعات ختمت وصلتها الثالثة بأغنية "بعيد عنك" لبليغ حمدي الذي غنت له في الحفل الثاني "سيرة الحب"، وسط حضور جنوني دفع مدير المسرح إلى رفع ثمن التذاكر وزيادة تذاكر الراغبين في الوقوف.
ردود الأفعال
حظيت الزيارة باهتمام كبير عربياً وعالمياً، ومن أبرز من رافقوها الراحلة سلوى حجازي، التي سألت الفرنسيين عن انطباعهم برغم أنهم لا يعرفون اللغة العربية، وردّت عليها المطربة ماريا لافوجيه: إنها شعرت وهي تسمع أم كلثوم بأنها في معبد مقدس وتعجبت من قدرتها على تلوين الجملة الموسيقية بأداءات مختلفة".
أما الممثل الشهير جيرار ديبارديو فاستعاد تلك الذكرى قائلًا، بأنه فوجئ بنفسه يبكي وهو يسمع "أعطني حرّيتي أطلق يدي".
في البث التلفزيوني للحفلة، ولشدّة الانبهار بأداء هذا المقطع، صعد بعض الجمهور المنتشي في حالة "اليوفوريا" محاولًاً تقبيل يد ورأس الست. ولم تخرج تصريحات الجمهور العربي عن فرحهم بالحفل الذي له ردّ لهم الشعور بالكرامة.
كانت الحفلة الأعظم في تاريخ الأولمبيا، وسعى الفرنسيون لفهم هذا السحر، فوصفتها "لوموند" بـ "العملاقة المقدّسة"، بينما تطرّقت "لوفيغارو" إلى عمّال البناء الذين ضحّوا بأجورهم من أجل الحضور والجلوس بجوار سفراء وملوك.
لم تكتف أم كلثوم بالتبرع بأجرها، وإنما باعت صورها بتوقيعها، وأقامت مزاداً لبيع عقد من مجوهراتها. لذلك كتبت "آسوشيتدبرس" بأنها قادت تظاهرة سياسية في باريس. ونقلت مشاعر ورأي الطرف الآخر في الحرب، عن طريق الفن.
أبهرت الفلاحة المصرية العالم، وبكت متأثرة بردود الفعل. وكان من المفترض أن تكرّر التجربة في موسكو، لكن قبيل ساعات من الحفلة توفي جمال عبد الناصر، فاعتذرت وأعلنت الحداد.
تعلقيات
من يقرأ مئات التعليقات على الحلقة يجدها تدور حول عدم معرفة الأجيال الجديدة بكفاح أم كلثوم، وإصرارها على عدم الاستسلام، أو الفخر القومي والعربي بها، وفي ما يلي نماذج منها:
-"الست ماتت من سنين وحلقة جابت سيرتها جمعت الوطن العربي كله في التعليقات بنفس الروح زمان.. يارب الروح دي تنتقل للواقع".
-"بكيت من قلبي وأديش أتمنيت تكون الست عايشة بهاي الفترة وتغنيها ببلدي سورية".
ـ "من المغرب أستيقظ على صوت أم كلثوم وأنام على صوتها".
- "رغم إني سوري الجنسية...نزلت دمعتي وحسيت بشعور النصر والاعتزاز بأن أم كلثوم عربية مصرية".
ـ "اني عراقية بس دمعت اني اتابع الفيديو... أم كلثوم فخر للمصريين بس فخر أكبر لكل العرب"
ـ "أنا سعودية وأقول إن أم كلثوم أعظم ظاهرة موسيقية في التاريخ".
-"حالياً القصف عنا في لبنان وأنا مدخن شره جداً وعم شاهد الحلقة وأنا قاعد على كرسي غير مريح.. بعد ما خلصت الحلقة وعم اقرا الكومنتس اكتشفت إني صار لي 40 دقيقة ما دخنت سيجارة..وما تحركت رغم إني الكرسي مش مريح".
تحتاج تعليقات الجمهور العربي إلى تحليل مضمون حيث الإجماع على "البكاء": دموع الحنين إلى لحظة نضالية عظيمة، ودموع الهوان على الواقع الحالي، الإيمان بالفن موحداً للمشاعر والهموم العربية، الفخر بدل جلد الذات والتشرذم.
فمثلما كانت زيارة باريس انتصاراً رمزياً على مرارة النكسة، جاءت حلقة الدحيح لتكون انتصاراً رمزياً على لحظة الهوان الحالية والمآسي التي يتفرّج عليها العرب الآن وهم عاجزون.