تواجه فرنسا أزمة اقتصادية ومالية معقدة، تتجلى في ارتفاع معدلات التضخم والعجز في الموازنة العامة، بالإضافة إلى تصاعد مستويات البطالة والفقر. رئيس الوزراء الفرنسي المعين حديثًا، ميشال بارنييه، وصف الوضع المالي للبلاد بـ"الخطر للغاية"، مشيرًا إلى أن التحديات الاقتصادية تتطلب منهجية جادة وإعادة ترتيب الأولويات.
الأسباب
وتعود أسباب الأزمة الاقتصادية التي تعصف بفرنسا، إلى ارتفاع الأعباء الضريبية بالدرجة الأولى، حيث تعد فرنسا واحدة من أكثر الدول التي تفرض ضرائب مرتفعة على مواطنيها. هذه الأعباء أثرت بشكل سلبي على النمو الاقتصادي ومستوى معيشة الفرنسيين. الحكومة السابقة قامت بتخفيضات ضريبية، إلا أن هذه الإجراءات لم تنجح في تحفيز الاقتصاد بشكل كافٍ. وخفضت توقعاتها لنمو الناتج المحلي الإجمالي لعام 2024 إلى 1% من 1.4%، إذ أدت الحرب في أوكرانيا وغزة والتباطؤ في أكبر شركتين تجاريتين ألمانيا والصين إلى تأثر توقعات النمو.
ومن إحدى المشكلات الرئيسية التي تواجه الحكومة هي ارتفاع الإنفاق العام، وخاصة في الإدارات المحلية. ديوان المحاسبة الفرنسي أشار إلى أن تكاليف الموظفين تمثل ربع الإنفاق الحكومي، وهي في حالة نمو مستمر، مما يزيد من الضغوط على الميزانية. وأوصى الديوان بتخفيض 100 ألف وظيفة من أصل 2 مليون في البلديات والمناطق بحلول 2030، بهدف توفير 4.1 مليار يورو سنويًا، وإعادة القوى العاملة في المجتمعات تدريجيا إلى مستوياتها في مطلع 2010 وهذه الخطوة، رغم أنها ضرورية للحد من الإنفاق العام، قد تواجه معارضة شعبية قوية.
وإلى ذلك أشار وزير المالية السابق، بيار موسكوفيسي إلى أن العائدات الضريبية في 2024 قد تكون أدنى من التوقعات، مما يعقد من جهود الحكومة في خفض العجز. فيما سيتجاوز العجز العام المتوقع في 2024 الـ 6% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يزيد من الضغوط على الحكومة لاتخاذ تدابير تقشفية صارمة. فيما لا يزال يشكل معدل التضخم في فرنسا تحديًا كبيرًا، مما يضعف القوة الشرائية للمواطنين ويزيد من تكلفة المعيشة. أما نسب البطالة في فرنسا ما تزال مرتفعة، مع زيادة نسب الفقر، ما يخلق بيئة اقتصادية هشة تتطلب إصلاحات عاجلة.
المشكلة ليست في الدين
في هذا الإطار لفت جوزيف عازار، الباحث المتخصص في الاقتصاد الأوروبي، في حديثه لـ"النهار" إلى أنّه "وبعد أن تمكنت الجمهورية الفرنسية أخيراً من اختيار رئيس وزراء خلفاً لأتال بعد 51 يوماً من الشلل السياسي، جاء بارنييه ليحلّ مكانه (يبلغ من العمر 73 عامًا)، برؤية اقتصادية يمينية، قد تواجهها العديد من نقاط الضعف".
فتكرار نفس الحجج حول خطورة نسبة الدين العام لا أهمية له، بالنسبة لعازار، الذي أِشار إلى أنّه "ليس لنسبة الدين العام أي مبرر اقتصادي، ومن ناحية أخرى، إذا أخذنا في الاعتبار حجم هذه النسبة، وقارناها بنسبة الدين الخاص، سيتبين لنا أن الأخير يفوق الأول فيما لا أحد يتحدث عنه في فرنسا".
مشددا على أنه "لا يمكن أبدًا تحليل الدولة أو اختزالها في أسرة معيشية. حيث أن أتباع ما بعد الكينزية يتقبلون عجز الميزانية ويرونه أمر طبيعي، لأنه من خلال الإنفاق الحكومي يصبح بوسعنا تمويل الضمان الاجتماعي، والتعليم، والاستشفاء، والتنمية، وتمويل التحول البيئي. ومن ناحية أخرى، تعترف نظرية ما بعد الكينزية على مستوى الاقتصاد الجزئي بأن الأسر يمكن أن تلجأ إلى التقشف (خفض النفقات) حتى تتمكن من مواصلة الشهر".
وبالتالي، "لا ينبغي أن ينظر إلى الديون على أنها شيطان"، بحسب عازار، الذي شدد على أن "توجيه الدين هو العامل الأهم: فإذا وجهنا الإنفاق نحو الإنفاق الإنتاجي فإن معدل النمو سيتحسن. لذا فإن الفكرة العامة هي كيف نوجه هذا الدين، وليس كيف نتخلّص منه!".
ولفت عازار إلى أنّ "الاقتصاديون ذوو التفكير البديل، وأبرزهم أتباع ما بعد الكينزية، يفترضون أن معدل النمو الاقتصادي يجب أن يكون مساوياً على الأقل لسعر الفائدة الحقيقي. وإذا كان أقل، فيجب إعادة النظر في خيارات السياسة الاقتصادية".