أعلنت بورصة شيكاغو التجارية أنه بدءاً من كانون الأول (ديسمبر) 2024، سينضم الماء إلى السلع القابلة للتداول في البورصة، مثل الذهب والنفط. وستطلق البورصة عقوداً مرتبطة بسوق المياه الفوري في ولاية كاليفورنيا الأميركية، البالغة قيمته 1,1 مليار دولار، وتم تسعير كل 43.5 ألف قدم مكعب بقيمة 496 دولاراً.
وقالت بورصة شيكاغو التجارية في أيلول (سبتمبر) الماضي إن الهدف من إدراج المياه ضمن عقود السلع الآجلة أو كما يُطلق عليها عقود الخيارات، هي عقود تعطي حاملها الحق وليس الالتزام في شراء أو بيع الأصل المالي وفق سعر محدد وخلال توقيت محدد يمكن أن يشتري/يبيع الأصل قبل هذا التوقيت أو عند التوقيت المحدد وليس بعده، هو إدارة مخاطر سوق المياه والموازنة بين العرض والطلب بشكل أفضل، حيث يمنح المستثمر سعراً استرشادياً للمياه خلال المستقبل القريب سواء 3 أشهر أو 6 أشهر، وفق تقرير نشرته بلومبرغ.
فهل تحويل أهم مورد طبيعي للحياة إلى سلعة قابلة للتداول مؤشراً على ندرة المياه، ومحاولة للتحوط ضد أسعار المياه سريعة الارتفاع والتحضر للشح المائي المحتمل وبدء المضاربة به؟
شح مائيتشير إحصائيات منظمة الأمم المتحدة أن المياه تغطي نحو 70% من سطح الأرض وهو ما يُقارب 326 مليون تريليون غالون، لكن نسبة 1% فقط منها صالحة للشرب، لأن موارد المياه العذبة المحدودة تتعرض لضغوط متزايدة مع ارتفاع عدد سكان الكوكب وتوزيع المياه العذبة بشكل غير متساو وتكرار مواسم الجفاف الضارية جراء تفاقم ظاهرة التغير المناخي.
يقول تيم ماك كورت، الرئيس العالمي لمؤشّرات الأسهم والاستثمار البديل في بورصة شيكاغو، إنَّ نحو ملياري شخصٍ الآن يعيشون في بلدانٍ تعاني من الشح المائي، وتوقع أنه خلال أربع سنواتٍ فقط سيعاني ثلثي العالم من نقص في المياه. ومن هنا، زادت أهمية إدارة المخاطر المرتبطة بالمياه. وحذر معهد الموارد العالمية في آب (أغسطس) 2023 خلال تقرير له من أن 25 دولة في العالم تضمّ ربع سكان الأرض مهددة بشح في المياه بسبب الإجهاد العالي لمواردها المائية المتاحة وتداعيات التغير المناخي، وأن من بين هذه الدول 4 مليارات نسمة يتعايشون مع مستوى مرتفع من الإجهاد المائي لشهر واحد على الأقل، ومحاطون بمخاطر تتعلق بوظائفهم وصحتهم والمحاصيل الزراعية وتربية الماشية وأمن الطاقة.
وفق التقرير، أكثر المناطق معاناة من الإجهاد المائي هي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (11 دولة من إجمالي 25 دولة)، حيث يتعرض 83% من السكان لإجهاد مائي مرتفع جداً، وجنوب آسيا حيث تنخفض النسبة إلى 74%. ويتوقع معهد الموارد العالمية أنه "مع ارتفاع الطلب العالمي على المياه سنوياً بنسبة تتراوح بين 20 و25%، فبحلول عام 2050 سترتفع نسبة السكان المتعايشة مع الإجهاد المائي إلى 100%، وسيواجه نحو مليار إنسان آخرين أزمة ندرة مياه الشرب".
سلعة قديمةيقول دكتور عباس محمد شراقي، أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية في كلية الدراسات الأفريقية العليا بجامعة القاهرة، لـ"النهار" إن آلية تداول المياه بصفتها سلعة "موجودة أصلاً، في صورة اتفاقيات دولية، مثلما حدث بين جنوب أفريقيا وبوتسوانا، حيث تمرر الأولى جزءاً من المياه إلى الثانية في إطار اتفاقية للتعاون الدولي، وشهدنا ذلك أيضاً عندما طلبت ليبيا والأردن من مصر مدّ خطوط مياه عذبة لأراضيهما، لكن ذلك مخالف لاتفاقيات دول حوض النيل التي تسمح بالتصرف في مياه النيل داخل أراضي دول حوض النيل فحسب وليس خارجها"، مضيفاً أن بيع المياه وارد إذا كان للدولة المصدرة الحق في التصرف الكامل في مياهها، وهذا لا ينطبق على دول حوض النيل.
أما بالنسبة إلى بيع المياه بين دول حوض النيل (إرتريا وأوغندا وإثيوبيا والسودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية وجنوب السودان والسودان ومصر)، يقول شراقي إن حلم إثيوبيا أن تصدر المياه إلى مصر، "وهذا لن يحدث لأن دول المنبع والدول التي يتدفق عبرها نهر النيل يتساقط عليها 1660 مليار متر مكعب من مياه الأمطار سنوياً، ولا تملك القدرة على تخزين جميع هذه المياه بسبب الطبيعة الجبلية في هذه البلدان، وإلا تتعرض للغرق، وهي بالتالي مُلزمة بتمرير المياه لجيرانها".
عن سد النهضة وحصة مصر المائية، يقول شراقي إن السنوات الصعبة الخمس (سنوات ملء سد النهضة الإثيوبي) قد مرت بالفعل، "وتأثير السد على مصر محدود جداً، لكن التحدي الكبير الذي تواجهه مصر هو أن حصتها من مياه النيل البالغة 55,5 مليار متر مكعب ثابتة منذ عام 1959، وكان عدد سكان مصر حينها لا يتجاوز 20 مليون نسمة، واليوم تجاوز عدد السكان 107 ملايين نسمة، لذلك اتجهت مصر إلى تحلية مياه البحر حيث تنتج حالياً 400 مليون متر مكعب سنوياً تستخدم في تنمية المجتمعات العمرانية، بينما تنتج السعودية ملياري متر مكعب من تحلية مياه البحر بسبب التطور التكنولوجي لديها. وفي الزراعة، تحتاج مصر إلى 70 مليار متر مكعب من المياه، لذلك تعتمد على مياه نهر النيل ومعالجة مياه الصرف الزراعي والصرف الصحي"، موضحاً أن تكلفة تحلية متر مكعب من مياه البحر دولار واحد ينتج كيلو قمح قيمته 15 جنيهاً (نحو 20 سنتاً)، لذلك تستورد مصر القمح ولا تزرعه لندرة المياه وارتفاع تكلفة تحلية مياه البحر.
ويتابع: "مصر هي الدولة الأولى من حيث الشح المائي، ومع الزيادة السكنية لن يُفلح السد العالي في سد احتياجات مصر من المياه العذبة، لأنه يحتفظ بالمياه لشهور قليلة فقط، وحالياً لا تعاني مصر من جفاف لكن مستقبلاً ما إذا وجدت حلول لتوفير المياه العذبة قد تتعرض لأزمة ندرة مائية".
تغيرات مناخيةيقول خبير الموارد المائية إن مسألة التغيرات المناخية يتم تناولها لأغراض سياسية أكثر منها بيئية، "فدرجة حرارة العالم كانت تزيد درجة واحدة مئوية كل ألف عام، لكن خلال العشر قرون الأخيرة لاحظنا أن درجة حرارة العالم ترتفع درجة واحدة مئوية كل 100 عام فقط، وهذا مؤشر خطر، وبالتالي سنشهد بلدان تتعرض للجفاف بشكل أسرع وستتغير خريطة الاستمطار في العالم نتيجة للتقلبات الجوية".
ويوضح شراقي أن الدول المتضررة من ممارسات الدول المصنعة الكبرى، مثل الصين التي تنتج 40% من الطاقة من الفحم، والهند والولايات المتحدة اللتين تنتجان 20% من الطاقة من الفحم، وروسيا التي تسلط الضوء على تأثيرات التغير المناخي للحصول على تعويضات عن الضرر البيئي الذي تساهم فيه الدول المصنعة، تسعى للحصول على جزء من كعكة 100 مليار دولار المخصصة لقضية التغير المناخي، "وهذا لم يحدث حتى الآن، وشهدنا جميعاً مؤخراً إعلان دونالد ترامب نيته الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ قائلاً ’إنهم يخدعون العالم بالحديث عن التغير المناخي‘".
ويقول إن الاعتراف بحدوث تغير مناخي يتطلب قياس لدرجات حرارة الكوكب على مدار 100 عام، "فإذا لاحظنا أن هناك مناطق توقفت عندها الأمطار مدة تتراوح بين 30 و50 عاماً، أو مدة 20 عاماً متصلة، يمكننا الجزم بأن للتغير المناخي تأثير سلبي على هذه المناطق، وهذا لم يحدث حتى الآن، وكل الحوادث التي شهدناها في المكسيك وغابات الأمازون حوادث عرضية نتيجة الموجات الشمسية والهالات الحرارية التي ترسلها الشمس إلى الأرض، وهذا طبيعي لأن دورة النشاط الشمسي تحدث كل 11 سنة، وتتسبب في ارتفاع درجات الحرارة بمناطق عدة من الكرة الأرضية".
قائمة المعاناة1- الشرق الأوسط وشمال إفريقياالدول المعتمدة بشكل كبير على تحلية مياه البحر مثل السعودية، الإمارات، الكويت، قطر، البحرين. أما الأردن فتصنف بين الدول الأكثر فقرًا بالمياه على مستوى العالم. كما تعاني مصر ضغوطاً مائية بسبب الاعتماد الكبير على نهر النيل ونمو السكان السريع.
2- دول آسياتعاني دولتا الهند وباكستان نقصًا حادًا في المياه، بسبب تزايد السكان والزراعة المكثفة، كما تتفاقم الأزمة بسبب التغير المناخي. أما أفغانستان تعاني درة مائية حادة بسبب التغير المناخي والصراعات المستمرة التي تؤثر على البنية التحتية للمياه. و تعاني الصين توزيعاً غير متوازن للمياه بين الشمال والجنوب، حيث تواجه المناطق الشمالية نقصًا شديدًا في المياه.
3- أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى تعاني دول مثل إثيوبيا، نيجيريا، السودان، وتشاد نقصاً في المياه الصالحة للشرب وسوء إدارة موارد المياه المتاحة.
4- العالم العربيفي آذار (مارس) 2023، أكدت رولا دشتي، الأمينة التنفيذية للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا "إسكوا"، أن نحو 90% من إجمالي عدد السكان في المنطقة العربية يعيشون في بلدان تعاني ندرةً في المياه. وأضافت أن المنطقة العربية هي الأكثر ندرة في المياه بين جميع مناطق العالم، حيث تقع 19 من بين 22 دولة عربية في نطاق شح المياه، مشيرة إلى أن 21 من 22 دولة عربية تحصل على مواردها المائية الأساسية من مياه عابرة للحدود.
ويؤكد خبراء أمميون أنه لن تزداد المياه المتاحة في المنطقة العربية من المصادر التقليدية المعروفة للجميع مثل أنهار المياه العابرة للحدود. وخلال الفترة الأخيرة شهدنا تراجع منسوب المياه في نهري دجلة والفرات بالعراق، ما أدى إلى انخفاض الإنتاج الزراعي، كما شهدنا جفاف مياه نهر الخابور بريف الحسكة في سوريا جراء التغيرات المناخية وحبس المياه من الجانب التركي.
5- باقي دول العالمتعتبر أستراليا من الدول التي تعاني من الجفاف وندرة المياه، خصوصاً في المناطق الريفية والنائية. وفي أميركا الجنوبية، تعاني دولتا بيرو وبوليفيا نقصاً في المياه بسبب تغير المناخ وتناقص الجليد في جبال الأنديز، الذي يعد مصدرًا مهمًا للأنهار. وثمة ولايات أميركية مثل كاليفورنيا، نيفادا، وأريزونا تعاني شحاً مائياً، لا سيما في مواسم الجفاف الطويلة.
ما الحل؟بحسب الخبراء، يكمُن حلّ معالجة قضية الأمن المائي العربي وندرة المياه في استخدام الموارد المائية غير التقليدية في المنطقة العربية من مياه محلاة واستخدام المياه العادمة ومياه الصرف الصحي والزراعي، والاستخدام الآمن للمياه الجوفية والمياه شبه المالحة وحصاد مياه الأمطار.
في هذا السياق، يقول الدكتور هاني سويلم، وزير الموارد المائية والري المصري، في تصريحات له في تشرين الأول (أكتوبر) 2024، إن عدداً من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وحوض البحر المتوسط "نفذت تجارب ناجحة في مجال التحلية للإنتاج الكثيف للغذاء، مثل الأردن والمغرب وإسبانيا".
ودعا وزير الري المصري إلى تنفيذ مشروع إقليمي تحت مظلة مبادرة (AWARe)، يجمع عدة دول تواجه تحديات متشابهة في مجال المياه.