أثارت تصريحات الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب الأخيرة، حول فرض رسوم جمركية بنسبة 100% على دول مجموعة البريكس إذا مضت في إنشاء عملة بديلة للدولار جدلاً واسعاً في المشهد الاقتصادي والسياسي العالمي. هذه التهديدات تعكس القلق الأميركي المتزايد من محاولات دول البريكس تعزيز استقلالها المالي وتحدي الهيمنة التاريخية للدولار، لكنها في ذات الوقت تسلط الضوء على التحولات الجارية في النظام المالي العالمي.
"تصريحات ترامب، رغم كونها غير ملزمة في الوقت الحالي بحكم موقعه خارج السلطة، ليست مجرد كلمات سياسية، بل انعكاس لمخاوف واشنطن المتزايدة من تغير موازين القوى الاقتصادية العالمية"، برأي وارف قميحة، رئيس معهد طريق الحرير للدراسات والأبحاث (كونفوشيوس)، ورئيس الرابطة العربية الصينية للحوار والتواصل، الذي اعتبر في حديثه لـ"النهار" أنّ "هذه التصريحات تبرز كإشارة واضحة على تصاعد التوترات الاقتصادية الدولية وتجسد معركة مستمرة حول مستقبل الهيمنة المالية العالمية. إذا استمرت دول البريكس في بناء أنظمة مالية بديلة وتقليل الاعتماد على الدولار، فقد نشهد تحولاً كبيراً في ملامح النظام المالي العالمي".
تغييرات على المشهد العالمي
من جهته أكّد الباحث الاقتصادي والسياسي، د. محمد موسى، في حديثه لـ"النهار" أنّ "عودة ترامب إلى المكتب البيضاوي ستحدث تغييرات كبيرة على المشهد العالمي، وخاصة على دول مجموعة بريكس التي تمثل التحدي الأساسي للغرب بقيادة الولايات المتحدة. فهذه المجموعة تضم قوى كبرى مثل روسيا (الدولة الأكثر تسلّحا اليوم) والصين (مصنع العالم). كما تضم هذه الدول حوالي 45% من سكان العالم، ما يجعلها محورًا اقتصاديًا هامًا يجمع بين الإنتاج والتسويق وفتح أسواق جديدة".
وشرح موسى، أنّه "بالنسبة لدونالد ترامب، يشكل تجمع هذه الدول تهديدًا جديًا للاقتصاد الأميركي، ومن هنا يُتوقع أن يتبنى موقفًا أكثر تصعيدًا مقارنة بالإدارة الديمقراطية السابقة التي كانت تعمل على إعاقة تقدم بريكس بطرق غير مباشرة، مثل زرع العقبات. أما ترامب، بطبيعته المواجهة، فقد يلجأ إلى فرض رسوم جمركية أو اتخاذ إجراءات مباشرة ضد هذه الدول، خاصة إذا استمرت في تقليل اعتمادها على الدولار. وقد عبّر ترامب في السابق عن رفضه الوقوف مكتوف الأيدي أمام ما يراه تهديدًا لعملة بلاده".
العملة الموحدة
وعلى الرغم من أنّ مشروع العملة الموحدة للبريكس يواجه تحديات داخلية كبيرة، نظراً لاختلاف السياسات الاقتصادية والأولويات الوطنية بين أعضائها، مثل الهند والصين وروسيا، فبرأي قميحة إن "مثل هذه التهديدات قد تدفع المجموعة نحو تعزيز شراكتها المالية من خلال أنظمة الدفع العابرة للحدود المعتمدة على العملات المحلية، مثل اليوان والروبل"، مضيفا أنّ "هذا الاتجاه يعكس خطوات تدريجية للخروج من سيطرة الدولار، وهي خطوات أصبحت أكثر إلحاحاً بفعل العقوبات الغربية على روسيا واستخدام الدولار كأداة ضغط سياسي واقتصادي".
ولفت قميحة إلى أنّ "حتى الدولار الأميركي، الذي يشكل نسبة كبيرة من الاحتياطيات العالمية ويهيمن على التجارة الدولية، يواجه تحديات متزايدة مع توجه الاقتصادات الناشئة لتقليل الاعتماد عليه. الصين توسع شبكات استخدام عملتها المحلية وتروج لعملتها الرقمية، بينما تركز روسيا على تسهيل المدفوعات بالروبل والذهب. ورغم أن هذه الجهود لم تصل بعد إلى مستوى يهدد هيمنة الدولار، فإنها تشير إلى تحول تدريجي نحو نظام مالي عالمي أكثر تعددية".
أدوات أميركا Vs بريكس
وعن الضربات التي قد توجهها أميركا لدول بريكس، قال موسى "الولايات المتحدة، بما تمتلكه من أدوات تأثير قوية، قادرة على إضعاف وجود دول بريكس في مناطق مثل أفريقيا، باكستان، والممرات الاقتصادية الاستراتيجية. عبر استخدام وسائل غير عسكرية مثل العقوبات الاقتصادية أو وقف المساعدات والدعم العسكري، يمكن للولايات المتحدة تقويض مبادرة الحزام والطريق الصينية التي أصبحت في مواجهة حقيقية مع المصالح الغربية. ومن المرجح أن تدفع منطقتنا العربية ثمن هذه المواجهة بشكل خاص".
"أما بالنسبة لردود أفعال دول بريكس على العقوبات أو الإجراءات الأميركية، فمن المتوقع أن تكون متفاوتة بناءً على العلاقات والمصالح المختلفة"، يقول موسى، "فعلى سبيل المثال، تمتلك الهند علاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة، بينما تُعد الصين أكبر مورد للسوق الأميركية. روسيا تعتمد على قوتها العسكرية وحضورها في الشرق الأوسط وأفريقيا، مما يمنحها أوراق تفاوض قوية، في حين تركز البرازيل على المصالح التجارية المباشرة".
بدوره اعتبر قميحة أنّ "فرض رسوم جمركية بهذا الحجم على دول البريكس قد يؤدي إلى تداعيات عكسية على الاقتصاد الأميركي، حيث قد يدفع الاقتصادات الناشئة إلى تعزيز جهودها لتطوير بدائل جديدة وتسريع تقليل الاعتماد على الدولار. بالإضافة إلى ذلك، مثل هذه السياسات قد تعزز التحالفات الاقتصادية بين دول البريكس وتجذب دولاً أخرى في الجنوب العالمي، التي تبحث عن بدائل أكثر مرونة وعدالة مقارنة بالنظام المالي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة والمؤسسات الغربية".
وعن مستقبل هذا الصراع توقّع موسى أنّ "مجموعة بريكس لن تكون خصمًا سهلًا للولايات المتحدة. وترامب، المعروف بأسلوبه التفاوضي القائم على التسويات، قد يسعى لتحقيق اتفاقيات تضمن مصالح الطرفين، مع الحفاظ على مظهر التصعيد أمام جمهوره الداخلي. ولكن يبقى أن دول بريكس ستسعى بدورها إلى ضمان مصالحها، مما يجعل من المحتمل أن نشهد تسوية تحقق توازنًا بين الأطراف المتنافسة".