في قسم الحروق في مستشفى الجعيتاوي وجعٌ من نوع آخر. ثمة أجساد احترقت على أيادي الإجرام، ولا شيء سوى العزيمة والصمود يخفف من وطأة الحروق التي غطت أجساد المصابين. هناك، كان لنا موعد مع حقيقة لم تروَ بعد، صوت لم يُسمع بعد، وإراداة لم يتغلب عليها الموت والقهر. جميعهم كانوا في منازلهم عندما غدرتهم إسرائيل بصواريخها القاتلة؛ جميعهم يعشقون الجنوب وتراب الجنوب؛ وجميعهم كتبوا الأمل والقوة بصبرهم.
تزايدت الضغوط على قسم معالجة الحروق في مستشفى الجعيتاوي مع تدفق أعداد كبيرة من المصابين بحروق على إثر تفجيرات البيجر ، ثم ارتفعت وتيرة الإصابات منذ 23 أيلول (سبتمبر) 2024 نتيجة توسع العدوان على لبنان، والذي رافقه ارتفاع في أعداد المصابين بحروق بليغة تستوجب المعالجة المتخصصة.
وبحسب مدير المستشفى بيار يارد، يحضر مصابون من الجنوب والبقاع ومختلف المناطق اللبنانية التي تُستهدف بالقصف. فمستشفيات المناطق تستقبل المصابين، ثم إذ اتضح لها أن هنالك حروقاً بليغة تستوجب معالجة متخصصة، تلجأ إلى تحويل أولئك المصابين إلى مستشفى الجعيتاوي. بالتالي، يستقبل مركز الحروق عشرات الجرحى، والبعض منهم يعاني حروقاً تتخطى الـ50 أو الـ60 في المئة من مساحة أجسادهم.
يُشير يارد إلى وجود عدد كبير من حروق الدرجة الثالثة أو أكثر؛ ومن الطبيعي أن تطول عندها مدة الاستشفاء. وتستوجب نسبة كبيرة من الإصابات ما لا يقلّ عن شهرين أو ثلاثة من المكوث في المستشفى، لا سيما أن 80 في المئة من الإصابات تُصنّف حروقاً بليغة. ومن بين المصابين طفل عمر السنة، وآخر بعمر السنتين، وطفل بعمر الـ11 سنة، وآخر بعمر الـ15 سنة.
الوجع إن حكى
خرجت غادة فرحات من منزلها في بلدة كفررمان لتزور أقرباء لها حتى تهدأ الأمور. لكن ما خططت له اختلف عما حصل فعلاً، إذ اشتد القصف، ولم يكن أمامها غير اتخاذ قرار المغادرة إلى منطقة أكثر أمناً، فوقع الخيار على مدينة طرابلس.
تتحدث غادة عن ذلك اليوم الذي غيّر حياتها، فهي لم تكن تريد سوى الخروج من تلك المنطقة، إلا أن ما تمنّته لا يُشبه ببراءته ما اقترفته إسرائيل فيهم.
تقول: "عدتُ مع زوجي إلى منزلنا لجلب أغراضنا والانطلاق نحو طرابلس ، ولم يكد زوجي يوقف السيارة أمام المنزل حتى سمعتُ صوتاً قوياً. كان صوت الصاروخ مدوياً، وكان وقعه فظيعاً".
بصوتها المبحوح، تستكمل غادة قصتها. تتذكّر جيداً "صوت الصاروخ الذي ما زال في أذنيّ، وكيف طرتُ نتيجة عصف الصاروخ قبل أن أسقط على الأرض. رأيتُ زوجي مستلقياً إلى جانبي، لم يكن أمامي سوى الزحف للوصول إليه، أناديه ولكن من دون مجيب. كان جسمه ينتفض وسمعتُ شخيره".
بقي وحيدها عباس البالغ من العمر 3 سنوات في السيارة. حاول مناداة والده، ثمّ حلّ الصمت. وصلت سيارة الإسعاف الأولى لتنقل زوج غادة وابنها في حين بقيت غادة في انتظار السيارة الثانية.
مشاهد قاسية ما زالت محفورة في ذاكرتها. كيف لها أن تنسى كل هذه التفاصيل الموجعة. تروي لـ"النهار" "بدأت النيران تشتعل في ثيابي فما كان أمامي سوى محاولة خلعها".
أكلت النيران من جسد غادة. الحروق في كل شبر منه، لكن الشظايا التي خرقت جسدها خلفت وراءها أوجاعاً كبيرة. هي اليوم تتلقى العلاج في مستشفى الجعيتاوي بانتظار أن تلتئم حروقها وجروحها لتعود إلى ابنها الذي ينتظرها بفارغ الصبر، من دون أن تعرف حتى الساعة أن زوجها استشهد ولن يكون معها بعد اليوم.
كل شيء كان سريعاً
رفضت عائلة مجتبى ترك منزلها والرحيل. بقيت صامدة هناك قبل أن يغدرها القصف الإسرائيلي بغارة على منزلها. مجتبى الابن الذي لا يتخطى عمره الـ15 سنة بقي على قيد الحياة مع صهره، في حين استشهد والديه وشقيقاته، ولم يبق من عائلته سوى شقيقته المتزوجة التي لم تكن في المنزل لحظة استهدافه.
يتذكر جيداً كيف أسقطت الغارة محبيه شهداء. كانت والدته تحضر الطعام ـ وفق ما يقول ـ وشقيقاته معها. "أصابت الغارة المنزل الأرضي بينما كنتُ على السطح في الطابق الثاني. أتذكّر سيارة الإسعاف قبل أن أفقد الوعي. لا أتذكر سوى إنني استيقظتُ في مستشفى الجعيتاوي".
حدث كل شيء بسرعة، يوضح مجتبى. "سمعت صوت الغارة قبل أن تصبح الدنيا أمام عينيّ غبار، لأستوعب عندها أن الغارة استهدفت منزلنا. قضيتُ حياتي كلّها هناك، ولن نستسلم. والدي علمنا الصمود ولن نتخلى عن هذه العزيمة".
استشهد توأماي
أما جنان جمول، هذه الأم والسيدة التي تعيش في الغازية، فكانت بانتظار زوجها ليعود مع ابنتها، التي ذهبت لتقديم طلب تسجيل في الجامعة. لم يكن القصف اشتد في تلك البلدة، وكان من المقرر أن تغادر العائلة كخطوة احترازية خوفاً من التصعيد. تروي لـ"النهار" كيف كانت تحضر الطعام بعد أن حزمت أمتعتها للخروج من البلدة، تقول "قصفت الغازية في ذلك النهار في المقلب الآخر، بعيداً عن منزلي. اتصلت بزوجي الذي كان في منقطة صيدا، وقلت له أنا بانتظاركما فلا تتأخرا.
هذا كل ما أتذكره، لا أعرف كيف ومتى حدث كل ذلك. لم أستوعب شيئاً، قذفني الانفجار إلى خارج المنزل في حين استشهد توأماي. استغرقتُ يوماً كاملاً لأستوعب ما حصل، 3 صواريخ حطمت كل شيء داخل منزلي".
الوجع النفسي يضاهي كل أوجاعها الجسدية ؛ الحروق تغطي 80 في المئة من مساحة جسدها. ومع ذلك، تؤكد أن "إسرائيل إلى زوال مهما اشتدّ إجرامها. لن نستسلم، معنوياتنا عالية، ولن نفقد ضحكتنا مهما حصل".
8 أيام فاقداً للوعي
من الغازية إلى طريق النبطية، عاد محمود الطحيوي من خدمته العسكرية إلى منزله قبل أن يلتقي أبناء عمومته قرب "مكنة" تحضير القهوة. "كل شيء حدث بسرعة، استشهد أبناء عمي في حين نٌقلت إلى المستشفى والحروق تخترق كل جسدي. لم أشعر بالصاروخ. لقد شعرتُ فقط بالنار تأكل جسدي، وكنتُ أردد فقط "عيوني عيوني"".
لقد استهدفت إسرائيل "إكسبرس". ووفق ما يشدّد طحيوي "نحن أبناء عزّل، لكن إسرائيل لا تميز أحداً". منذ استهدافهم، لا يتذكّر محمود شيئاً. 8 أيام فقد فيها الوعي، لا شيء سوى النوم العميق قبل أن يستيقظ ويدرك حقيقة وضعه الصحي.
ينتظر أن يستعيد عافيته ليعود إلى منزله في الجنوب. يقول "هونيك خلقنا وهونيك منموت. لن نخرج من هناك".
في قصصهم جميعاً، نواجه حقيقة واحدة هي أن الإجرام انتهك خصوصيتهم واخترق أمانهم. لا جريمة سوى أنهم جنوبيون.