من تشييع ضحايا القصف الإسرائيلي في بلدة المعيصرة. (حسام شبارو)
منذ بدء العدوان الإسرائيليّ على لبنان تغيّرت أشياء كثيرة في روتين الحياة اليومية للبنانيّين، فاختبرتهم هذه الحرب التي أغلقت عامها الأول قبل أيام، وبمعظهم في أعزّ ما يملكون، بشراً وحجراً، فصار تشييع الأحبّة أمراً غير متاح، إنّ كان بسبب القصف المستمرّ لمعظم القرى ولاسيما منها الحدوديّة، أو بسبب تعرّض فرق الإسعاف من الدفاع المدني أو "الهيئة الصحيّة الإسلاميّة" التي تنقل الجثامين للاستهداف ممّا صعّب مهمّة نقلها، فأصبحت المقابر الموقتة أو ما يُعرف بالدفن عن طريق "الوديعة" ظاهرة منتشرة.
غالبية القرى اللبنانية الحدودية، وبخاصة في القطاعين الشرقي والأوسط، باتت خالية إلّا من قلّة قليلة من سكانها الذين قرّروا الصمود وعدم ترك بيوتهم وأراضيهم رغم الاستهداف المباشر للمدنيين والمجازر المروّعة.
تمكّنت إسرائيل من إبعاد العدد الأكبر من الجنوبيين عن قراهم، وبسبب الحرب لم يعد هناك من سبيل للدفن في المقابر كالسابق، فاستُحدثت مدافن أخرى بعضها موقت، والبعض الآخر دائم لمنح الموتى المثوى الأخير دون التعرّض لمخاطر إقامة الجنازات.
مصادر مواكبة أفادت "النهار" أنّ عمليّات الدفن تجري في أماكن مقبولة إلى حدّ ما خارج نطاق المناطق المستهدفة، أو الأقل عرضة للقصف. فبلدات كالخيام، عيترون، بليدا، عيتا الشعب، ميس الجبل، الناقورة، الضهيرة وغيرها أصبحت خالية تماماً من السكّان ويصعب الوصول إليها.
يتحدّث الشيخ فؤاد خريس، عضو الهيئة الشرعية في مكتب المرجع الديني السيد محمد حسن فضل الله، لـ"النهار" عن اتّصال أحد أبناء بلدة الخيام به لاستشارته في موضوع دفن والده الذي استشهد في غارة إسرائيليّة "وديعة"، مستفسراً عن طريقة نقل الجثمان في ما بعد؟
يجزم خريس أنّ عمليّة الدفن الموقّت يجب أن تجري داخل تابوت، وليس في قبر واحد أيضاً، مشيراً إلى اختلاف في وجهات النظر لدى مراجع الطائفة الشيعيّة حيال هذه القضيّة.
ويقول لـ"النهار": "نحن لا نشجّع على نقل الجثمان بل على الدفن الطبيعي، لأنّ في الموضوع العديد من الإشكالات، وفي حال جرى نقلها لضرورات تحتّمها هذه المرحلة، فيجب أنّ تُنقل بتابوت مقفل".
ويشرح أنّه في أثناء عمليّة النقل "قد تُهتك حرمة الميت أو يجري نبش القبر"، مضيفاً: "الصلاة والدعاء يصلان إلى أي مكان يُدفن فيه الإنسان، والحالة الوحيدة التي تجيز نقل الجثمان هي نقله إلى الأماكن المقدّسة كمدينة كربلاء في العراق وغيرها".
هذه الحرب التي قرّرت أن تقتل ضحاياها مرتين، جعلت إبن بلدة عيترون يخشى تكرار سيناريو دفن ضحايا الحرب في غزة مع أبناء عائلته. هو الذي لا يملك تصوّراً عمّا إذا كانت المقابر الموقّتة التي خصّصت لهم ستبقى على حالها أمّ لا، يقول لـ"النهار": "حتى المقابر لم تسلم من قصف إسرائيل التي غيّرت معالم معظم قرى الجنوب وبلداته، وحتى مواكب التشييع تعرّضت للاستهداف".
مفتي بعلبك - الهرمل
يتفّق مفتي بعلبك - الهرمل الشيخ بكر الرفاعي، مع ما قاله عضو الهيئة الشرعية في مكتب المرجع فضل الله، ويؤكّد لـ"النهار" أنّ الدفن الموقّت "هو من الأشياء غير المحبّذة في الشريعة الإسلامية"، مشدّداً على "أنّ حرمة الميت أقوى من حرمة الحيّ، بحيث لا يتهتّك البدن ولا يُساء إلى الميّت، وهذا رأي غالبية الفقهاء".
ويشير الى "أن مسألة دفن الميت في بلدته تتصل بالعادات والتقاليد وليس بالدين"، لافتاً إلى سير من كانوا مع النبيّ محمد، بقوله: "لا تدري كل نفس بأي أرض تموت، وما دام هم دفنوا حيث ماتوا فعلينا أن نتبع خطواتهم".
ويدعو إلى "دفن الإنسان حيث يموت، إلّا في حالات قليلة تجيز نقله كالدفن في أرض مغتصبة أو إذا تبيّن أنّ طريقاً سيمرّ أو يُفتح في مكان الدفن".
ماذا يقول الطب الشرعي؟
"علمياً، لا مانع لنقل الجثّمان من مكان إلى آخر عند الضرورة، إذا جرى وفقاً للأصول التي يجب اتّباعها"، بحسب الطبيب الشرعي في محافظة الجنوب عفيف خفاجة.
ويضيف: "إنّ الجثث المقطّعة أو الأشلاء التي تخضع لفحوص الـDNA وكذلك وجود شهود على عمليّة الدفن تسهّل عمليّة نقل الضحايا، مع وجوب التنبّه إلى الآثار السلبيّة التي قد تترتّب على محيط مكان الدفن وخصوصاً أن إسرائيل تستخدم الفوسفور الأبيض والقنابل المحرّمة دولياً في استخدام المناطق المأهولة"، داعياً إلى "أخذ أعلى درجات الحيطة في عمليّات الدفن".