لم يكتفِ العدوان الإسرائيلي بمحو الجزء التراثي من سوق النبطية التجاري قبل أيام، بل تعداه لينال من "العقول النبطانية" الساعية الى تطوير المدينة والدمج بين ماضيها ومستقبلها بما يليق بها كمركز للمحافظة السادسة في لبنان. هكذا تكاملت مذبحة بلدية النبطية الدموية مع مجزرة السوق التراثي لتشكلا استهدافاً مزدوجاً للتاريخ "النبطاني" النابض بكل جوانبه، حجراً وبشراً.
البداية كانت ليل الأحد 13 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري مع الحجر إذ استهدف الطيران الإسرائيلي الذاكرة "النبطانية" بجذورها المتوارثة عبر الأجيال. ووفق الباحث في تاريخ الجنوب ابن المدينة علي مزرعاني فإن "سوق النبطية هو سوق الحياة. منه تنطلق الحركة يومياً، عدا عن خصوصية سوق الأثنين. وهو نطقة التقاء لتبادل الأحاديث صباحاً ومساءً كونه القلب النابض وليس فقط أكواماً من الحجارة. فكل حجر في هذا السوق يروي تاريخ عائلة بل دورة حياة مستمرة منذ القرن التاسع عشر".
إمام النبطية الشيخ عبد الحسين صادق ومواطنون من أبنائها عند ركام أحد المباني المدمرة في المدينة.
ويلفت مزرعاني، وهو صاحب مؤلفات توثيقية وأرشيفية عدة للمدينة وقرى القضاء والجنوب اللبناني، إلى أن بيدر النبطية منذ العصر المملوكي تحديداً يمثل نقطة تلاقٍ تجارية حيث كان "القادمون من فلسطين والجولان وسائر قرى الجنوب العاملي يجتمعون من عصر الأحد حتى مساء الاثنين لتبادل البضاعة على اختلافها".
ومع أواخر القرن التاسع عشر تم بناء "سوق النبطية التراثي" حيث كانت واجهة هذا المربع لجهة شارع حسن كامل الصباح عبارة عن "خمس محال مبنية من عقود حجرية مملوكة لعائلة بك الفضل العاملية، وخلفها قاعة الإيوان التي انتقلت ملكيتها إلى عائلة جابر التي حولها ابنها الدكتور علي جابر عيادة طبية سرعان ما تحولت منبتاً سياسياً في الجنوب يبشّر بحزب البعث العربي الاشتراكي منذ خمسينات القرن الماضي"، بحسب ما وثقه مزرعاني.
ويقول لـ"النهار": "كان هناك أيضاً مبنى فندق زهرة الجنوب وهو عبارة عن طابق قرميدي واحد ملكته عائلة جابر، وضمّ أيضاً أول صرح ثقافي هو نادي الأخاء الذي أسسه الدكتور محمد فران، وكان يضم نخبة المتعلمين والمثقفين أوائل الأربعينات".
ولفت إلى أن "محل مقلد المدمر اليوم هو امتداد لكبير العائلة جعفر منذ العام 1949، كذلك مكتبة حجازي ومقابلها مكتبة هاني الزين، وهي أماكن أُسِّست في الخمسينات من القرن الماضي شأنها شأن محل ’حلويات الديماسي‘ الذي كني الشارع باسمه وصار يُعرف بـ’نزلة الديماسي‘، كما محال توفيق جابر".
أما عند ما يعرف بـ"طلعة الشعار" فكانت هناك محلات توفيق محيي الدين الجدّ للخرضوات والتي لا يزال يشغلها أصحابها الأساسيون منذ العام 1930، مع العلم أنها كانت مرتعاً للنقاشات بمشاركة الشيخ أحمد رضا والشيخ سليمان ضاهر وفي ما بعد الشيخ علي الزين.