النهار

في ذمة نتنياهو منزل طبيب لبناني مات بحسرته
رولا عبدالله
المصدر: النهار
أسلم توفيق كنعان الروح عام 1964. كان نتنياهو آنذاك صبياً في الخامسة عشرة من عمره يلهو في حديقة دار كنعان المسلوبة.
في ذمة نتنياهو منزل طبيب لبناني مات بحسرته
منزل آل كنعان في مصرارة
A+   A-

تأخذ العمارة الفلسطينية الفاخرة إلى رخاء ما قبل النكبة. منزل قيسارية يأخذ الى حكاية أخرى، منذ ضربته مسيّرة "حزب الله". لقد كان مجرد منزل فخم الطراز، يقطنه رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو. منزل بناه واحد من أصدقائه، فأعجبه وطلب الانتقال إليه، ثم أخذ يتوسّع. منزل ثانٍ أعجبه في حيّ رحافيا الراقي في القدس. هو ليس بفخامة قيسارية لكنه مغرٍ لجهة الاستيلاء من خلاله على حي تراثي بأكمله. كان ينقصه ثكنات للحراسة وسياج حديدي ونقاط للمراقبة ودروع تحمي من الصواريخ. وفي زيارة نتنياهو لصديقه سيمون فاليك في شارع موردخاي كاسبي بحي أرنونا في القدس، تحمس الصديق وأفشى السر: في داخل المنزل مخبأ يحمي من الصواريخ وغدرات الحياة. لمعت الفكرة في عيني نتنياهو، حينما كان ينظر من الشرفة إلى المسجد الأقصى والبلدة القديمة. استعار نتنياهو المنزل؛ ومنذ تلك الزيارة "بات في جيبه". وفي رصيد رئيس الحكومة أيضاً منزل رابع ورثه من والده البولندي بن صهيون ميليكوفسكي (نتنياهو لاحقاً)؛ والأخير مؤرخ إسرائيلي، شغل منصب أستاذ التاريخ في جامعة كورنيل، فنال شهرة بكتاباته التحريفية التي أخذته للعرض المغري: أن يأتي إلى "أرض الميعاد" وينتقي ما يشاء من العمارات والمباني التي حرص الفلسطينيون قبل النكبة على هندستها بالاستعانة بمعماريين أجانب من أوروبا وبريطانيا وألمانيا، فكان أن وقع الخيار على منزل هو تحفة فنية لعائلة لبنانية قدمت من كفرشيما، جنوب شرقي بيروت، عام 1860 لتستقر في يافا ريثما تنتهي الحرب التي شهدها لبنان آنذاك.

كانت العائلة مؤلفة من ثلاثة صبيان وابنتين، بينهم أنطون وبشارة؛ والأخير متزوج باللبنانية كاترينا خيرالله، وقد رُسِّم أول قسّ عربي تخرّج في الإرسالية الفلسطينية، وأول قسّ لوثري عربي في الشرق الأوسط قام ببناء مدرسة وقاعة للصلاة والاجتماعات العامة. وهو والد الطبيب الفلسطيني توفيق كنعان الذي سلبته عائلة نتنياهو منزله. 

طبيب وعالم إثنوغرافيا

قبل النكبة، لمع نجم كنعان طبيباً وباحثاً وعالم إثنوغرافيا ومؤرخاً للفولكلور الفلسطيني، وصاحب مجموعة كبيرة ومثيرة للإعجاب من التمائم والأشياء الطقسية المحلية، ومتحدثاً سياسياً حازماً باسم شعبه، ومحاربًا حاد القلم ضد الاستعمار البريطاني والصهيوني. سافر عام 1899 إلى بيروت لدراسة الطب في الكلية السورية البروتستانتية (الجامعة الأميركية). وبعودته إلى فلسطين، لمع باحثاً طبياً معروفاً، وطبيباً كبيراً في مستشفى بيكور حوليم، ومديراً لعدة مستشفيات، بما في ذلك مستشفى هانسن للأشخاص المصابين بالجذام (مرض هانسن).

في ذلك المنزل، أمضى الطبيب كنعان لياليَ طويلة يعدّ الأبحاث متخصصاً في أمراض المناطق الحارة وعلم الجراثيم، لا سيما الملاريا والجذام والسل، ليتبوّأ قائمة مشاهير أطباء أمراض المناطق الحارة في العالم. وفي المنزل نفسه، خبأ التمائم التي يحكي عنها في كتابه "المعتقدات الغيبية" عام 1914، في الوقت الذي نما اهتمامه بالحجب ومقامات الأولياء والقوى الخارقة، فوضع كتاباً آخر بعنوان: "عالم الجن في أرض الكتاب المقدس"، "فصّل غذاء الجن ولباسها وكيفية ظهورها وأماكن سكنها (الأرواح الأرضية والأرواح الجهنمية)، إضافة إلى أسماء الأمراض التي تعود إلى أسماء جنّ طواها النسيان كـ"الخانوق" (الدفتيريا)، الريح الأصفر (الكوليرا) والطاعون". ومن هذا الميدان انتقل إلى فك طلاسم المعتقدات الشعبية. كتب عن الأرواح الشريرة، القرينة، أم الصبيان، عين الحسود، التعاويذ، الخرزة الزرقاء، الشبّة وأخيراً عود الميس. واستثمر أعشاب أرض فلسطين، مسلّطاً الضوء على فوائدها. كلّ هذا حصل في المنزل الذي استولت عليه عائلة نتنياهو عام 1949، والذي حوى ذخائر للتاريخ عبارة عن مؤلفاته وتمائم احتفظ بها، ومكتبة ضخمة، وأثاث جمعه من جولاته حول العالم. جميعها شاهدها تتعرض للسرقة، في الوقت الذي دأب على تسلّق سور القدس كلما وصلت شاحنة لنقل ما تبقى من المنزل في حي المصرارة، حيث باعت عائلة نتنياهو كل ما يؤشر الى تراث مالكه واحتفظت بالحجر.

من وراء الملاريا؟

لم يمنع هجوم عصابات "الهاغاناه" الطبيب اللبناني الفلسطيني من متابعة نضاله في شتى الميادين. احتمى وعائلته في دير لعامين ونصف العام، ولاحقاً سجن مرة بتهمة أنه متزوج بألمانية "من نسل هتلر"، وتارة لأنه أسهم في كشف دور مؤسسة روتنبرغ اليهودية للطاقة الكهرومائية في نشر الملاريا في بحيرة طبريا، ومراراً لدعواته العلنية إلى العصيان المدني وعدم المهادنة في نزع ملكية المزارعين الفلسطينيين لأراضيهم.

ناضل الطبيب كثيراً، ومن خلال كتابيه "صراع في أرض السلام" و"قضية عرب فلسطين" ناشد بريطانيا إعادة النظر في مخططاتها لمساعدة الفلسطينيين. لكن صوت رئيس الجمعية العربية الطبية لفلسطين توفيق كنعان بقي أشبه برجع الصدى، على الرغم من تنامي نفوذه عقب تعيينه من الاتحاد اللوثري العالمي مديراً للأعمال الطبية.

أسلم توفيق كنعان الروح عام 1964. كان نتنياهو آنذاك صبياً في الخامسة عشرة من عمره يلهو في حديقة دار كنعان المسلوبة. دفن كنعان في المقبرة اللوثرية في بيت لحم، بمحاذاة شارع القدس -الخليل، وبقي منزل مصرارة على الحدود بين فلسطين والأردن حسرة في قلبه. 


 

اقرأ في النهار Premium