النهار

الزراعة في بعلبك - الهرمل تتحدّى الحرب... الأرض تنقذ عائلات من حصار النار
صبا سكرية
المصدر: النهار
بقيت الأرض إلى جانب أهالي بعلبك- الهرمل عندما تركهم كل مسؤول في المنطقة، حتى عندما عصفت بهم الأزمات من اقتصادية إلى أمنية إلى اجتماعية. لذلك، يناشد الأهالي دوماً المسؤولين والجمعيات المبادرة لإنقاذ ما بقي من الأراضي الزراعية وتسليمها معافاة إلى الأجيال المقبلة، حفاظاً على العلاقة الفريدة التي تجمع أهالي بعلبك بالطبيعة. 
الزراعة في بعلبك - الهرمل تتحدّى الحرب... الأرض تنقذ عائلات من حصار النار
ارض زراعية في جبولة (النهار).
A+   A-

في هذه الفترة من كل سنة، كان يفترض بأهالي محافظة بعلبك- الهرمل استثمار الموسم الزراعي الذي يُعتبر من مصادر الدخل الرئيسية للعديد من العائلات في المنطقة. إلّا أن أحوالهم هذه السنة انقلبت بلا سابق إنذار.  فقد أتى العدوان الإسرائيلي مفاجئاً وحاداً في وقت الحصاد السنوي، ليمنع المزارعين والأهالي من الوصول إلى أراضيهم والاهتمام بها، وحتى من استطاع الوصول إليها واجهته عقبات صعبة كثيرة. ومع ذلك، كانت الزراعة بمثابة قطاع منقذ في هذه المحنة، ساهم في الوقوف إلى جانب الأهالي الذين لم يقف معهم أحد.

الزراعة شريان رئيسي، إذ توفر تركيبة التربة في بعلبك إمكانات كبيرة لإنتاج المحاصيل الزراعية.


تحظى المنطقة بأعلى حصة من إجمالي الأراضي المزروعة في لبنان (25 في المئة) بحسب إحصاء لجمعية "إيدال"،  

إلى جانب كون المنطقة تحتوي على العديد من الموارد المائية أهمها نهر العاصي، الذي جعل من الهرمل المنطقة المائية الرئيسية في لبنان. ويعتمد العديد من سكان المنطقة على الزراعة كمصدر رئيسي أو وحيد للدخل. وفي بعض الأحيان، توفّر دخلاً مستقراً للعديد من الأسر خصوصاً في ظل النقص الكبير في فرص العمل الأخرى، إلى جانب كونها توفّر فرص عمل للأيدي العاملة المحلية خصوصاً في مواسم الحصاد.

 

وإلى ذلك، يمكن الاعتماد على الزراعة في سنوات الحرب والأزمات الاقتصادية، وحتى في الأيام العادية بشكل كبير، لتأمين الاكتفاء الذاتي من خلال صنع المونة التي تشتهر بها المنطقة لتأمين قوت الشتاء، كما أن العديد من المصانع الغذائية في المنطقة تعتمد على الزراعة المحلية في إنتاجها، وبالتالي تساهم في تنشيط الدورة الاقتصادية إلى حدّ كبير.



مبادرة للاستفادة من الأراضي المتروكة

"أغلب المزارعين في بلدة شعت والبلدات المستهدفة حولها تركوا منازلهم"، يقول ابراهيم العرب، وهو أحد المزارعين الذين بقوا، رافضاً التخلّي عن أرضه ومنزله. ويضيف في حديث لـ"النهار"، أن "العديد ممن تركوا أراضيهم أطلقوا مبادرة لمساعدة من بقوا من الناس، فنشروا إعلاناً إلى جميع الراغبين في حصد الزرع للاستفادة الذاتية. يمكنهم الذهاب متى شاؤوا. أحد المزارعين من آل العطار يملك أرضاً زراعية تحتوي على كميات كبيرة من البندورة، دعا جميع الأهالي لقطافها. يمكننا القول إن أغلب المالكين لم يُقدموا على حصاد زرعهم بسبب الأوضاع الراهنة، بل تركوها للاستفادة السكانية أو ريثما تهدأ الأوضاع، وهو ما كان بمثابة طاقة إنقاذ لمن بقي في المنطقة بعد إقفال المحلات الغذائية".

 

ويتابع: "أنا مثلاً أملك محلات لبيع العلف والطحين، الأسعار خلال الحرب زادت بشكل مخيف (كل طن طحين زاد سعره حوالى الـ40 دولاراً)، بسبب إقفال معظم المطاحن وبقاء مطحنة واحدة في جلالا لتغطية كل حاجات البقاع، مع إبقاء الأولوية للأفران على باقي المحلات. أسعار النقل زادت بشكل كبير. الوضع كان صعباً جداً إلّا أننا بقينا نحاول تأمين حاجات الناس".

 

 

أرض زراعية في الفاكهة (النهار). 

 

قطاع صامد رغم الانتكاسات

المنطقة ليست جديدة على الحروب، بل باتت متكيّفة مع فكرة تكرّر الاضطرابات الأمنية. فمنذ عام 2006 الذي أتى حاملاً حرباً مدمّرة للمنطقة، إلى الأزمات الاقتصادية المتتالية على لبنان، إلى حرب "فجر الجرود" التي تركّزت في المنطقة وكان لها التأثير الأكبر على المزارعين، إذ بدأت عام 2011 ولم تنته حتى عام 2017، عاشت المنطقة اضطرابات عديدة ومنعت وصول معظم المزارعين إلى أراضيهم، ما أدّى إلى ضعف كبير في الحركة الاقتصادية في المنطقة لسنوات، كما منعت تصدير المنتجات إلى سوريا، وهي سوق رئيسية للمنتجات في بعلبك- الهرمل، إلى جانب التغيّر المناخي وموجات الصقيع التي أتت مفاجئة في العامين الماضيين، وأخيراً غياب الخطط الاستراتيجية للجهات المختصة ما أدّى بدوره إلى مشاكل كبيرة في البنى التحتية المهمّة لإنتاج محاصيل كبيرة كقنوات الري وغيرها.

اشترى عبد الناصر سكرية أرضاً في بلدة الفاكهة البقاعية، زرعها بكل أنواع الخضار والفاكهة التي تسمح بها التربة في المنطقة. كان يوزّع الخضار بينه وبين بناته وإخوته وأخواته والجيران وكل من يعرفه، من دون أي مقابل مادي رغم الإنتاج الكبير أحياناً والذي كان يتيح له إمكانية الاستفادة المادية. يحب عبد الناصر الأرض كثيراً، يقضي فيها ساعات طويلة وهو في قمة عطائه، مع أنه طبيب أسنان بساعات عمل طويلة، إلّا أنه في هذه الأزمة تعلّق بالأرض كثيراً، إذ قدّمت له بديلاً عن كل ما كان مفقوداً في الأسواق في منطقته، بحسب ما قال لـ"النهار".

 

سكرية شرح لنا أكثر عن استجابة الأرض لمالكها ودعوته إليها كلما غاب عنها. فإلى جانب استفادته الكبيرة منها كان يوزّع كافة أنواع الخضار والفاكهة التي يمكن أن تتحوّل لمونة بيتية تكفي كل أشهر الشتاء، كالباذنجان الذي يصنع منه المكدوس - الطبق الشهير جداً لدى عائلات بعلبك - إلى الفلفل الحار الذي يصنع منه معجوناً يكفي في الشتاء، إلى التين الذي يُضاف إليه اليانسون ويوضع في الشمس ليتحوّل إلى "سناك" صحي يتناوله الأهالي مع الجوز بجانب المدفئة، إلى صناعة دبس الرمان وغيرها. هكذا وفّرت الأرض المتاخمة لمنزله اكتفاءً ذاتياً له ولجميع معارفه، وعوّضت عن النقص الذي يواجهه معظم أهالي المنطقة.

عودة الاهتمام بالزراعة

ومن الظواهر التي كانت تُعتبر نادرة في المنطقة، اهتمام الجيل الجديد بقطاع الزراعة والسعي لتنشيطه. إلّا أن هذه الظاهرة عادت بشكل ملحوظ في الفترة الأخيرة. ومن بين الشباب الذين قرّروا النهضة بهذا القطاع والوقوف إلى جانب أبنائه، المهندس الزراعي ابراهيم العيط، الذي افتتح مع أخيه المهندس الزراعي عبد الرحمن، صيدلية زراعية في منطقة رأس بعلبك.

 

يقول ابراهيم لـ"النهار" إنه افتتح الصيدلية لتقديم الاستشارات الزراعية للأهالي، كون المنطقة تُعتبر زراعية بالدرجة الأولى، وهي مقسّمة بين الزراعة بإمكانيات كبيرة والزراعة بإمكانيات أصغر، من ضمنها زراعة البساتين والأشجار والخضار، مضيفاً أن الحرب أثرت بشكل كبير على عملهم في الزراعة. فبعض المزارعين تركوا أراضيهم واستغنوا عن مواسم السنة، خصوصاً الذين نزحوا إلى أماكن بعيدة، أو الذين تقع أراضيهم في مناطق خطرة، وبعضهم دعا من يستطيع الذهاب إلى الأرض للاستفادة من الخيرات بلا مقابل أو بأسعار زهيدة جداً للاستخدام الذاتي، بسبب عدم القدرة على تصريف المنتوجات.

 

وعن الصعوبات التي واجهتهم في الصيدلية، يقول العيط إن أهمها النقص الكبير في المواد الزراعية، نتيجة غياب الشركات المصدّرة عن المنطقة، إضافة إلى غلاء الأسعار وضعف السيولة هنا. وبشأن إصرارهم على افتتاح صيدلية في المنطقة رغم أن قطاع الزراعة يعاني منذ فترة، يلخّص العيط الدوافع وراء ذلك بقوله إنه وشقيقه يحبان هذا القطاع ولديهما خبرة زراعية كبيرة، والهدف الأهم كان تقديم الاستشارات المتخصصة للمزارعين لمساعدتهم في تحسين إنتاجاتهم، وخصوصاً أن بعضهم يقتات بشكل كامل من الزراعة وحدها. كما شجّع الجيل الجديد على الاستثمار داخل المنطقة، لأهمية هذا القطاع بالنسبة إلى أي بلد، ولما يمكن أن ينتج منها من مردود كبير لا يستهان به، خصوصاً في بعلبك- الهرمل حيث يوجد العديد من الأراضي الزراعية المتروكة من دون استثمار، مع انخفاض تكلفة اليد العاملة وتكلفة الإنتاج بشكل عام. 

 

من الصيدلية الزراعية في رأس بعلبك (النهار(

في الصيدلية الزراعية في الفاكهة (النهار).

 

مبادرات خاصة وغياب رسمي

يتحدث رئيس تعاونية الفاكهة-جديدة الزراعية بشارة رزوق لـ"النهار" عن الجمعية قيد الإنشاء التي بدأت لخدمة المزارعين في المنطقة ومساعدتهم في تنظيم عملهم للحصول على إنتاج أفضل، ويشير إلى أن "الحركة الزراعية ضعيفة هذه الفترة بعض الشيء لأسباب عدة منها بسبب الأوضاع الأمنية، وتردّد المزارعين في العمل نظراً لصعوبة تسويق المنتجات وعدم توفّر الإمكانيات اللازمة"، مضيفاً أن التعاونية تأتي بالدعم من جمعية "جان بول 2"، إلّا أن التطورات أجّلت المشاريع النهضوية، لأن مكتب الجمعية يقع في بلدة النبي عثمان، وهي منطقة في مرمى الخطر، إذ سبق أن تعرّضت لعدوان إسرائيلي أخيراً، لذلك يُعتبر المكتب مقفلاً حتى إشعار آخر والمشاريع مؤجّلة.

 

ومع ذلك فإنهم يقدّمون خدمات زراعية عدة بسعر زهيد مقارنة بالمناطق الأخرى، من أدوات الفلاحة وغيرها، "وجاءت الحرب لتعطّل علينا بعضاً من التحسينات الإضافية، خصوصاً أن المبادرات تأتي من جمعيات خاصة فقط، مع غياب تخطيط رسمي بشكل كامل رغم أهمية الزراعة لأهالي المنطقة، ورغم المشاكل الكثيرة التي تترافق معها في منطقة بعلبك- الهرمل، ليس فقط أثناء الحروب بل أيضاً في أيام السلم". 

 

بقيت الأرض إلى جانب أهالي بعلبك- الهرمل عندما تركهم كل مسؤول في المنطقة، حتى عندما عصفت بهم الأزمات من اقتصادية إلى أمنية إلى اجتماعية. كانت الأرض مظهر الحياة الوحيد هنا، ورغم أن الزراعة تحتاج إلى الكثير من الاهتمام، عمل الأهالي لسنوات على تطوير علاقة فريدة مع الأرض، طوّروا خلالها من أساليبهم لضمان التكيّف مع الظروف الخارجية، التي ساعدت طبيعة الأراضي في المنطقة في التخفيف من وطأتها. لذلك، يناشد الأهالي دوماً المسؤولين والجمعيات للمبادرة لإنقاذ ما بقي من الأراضي الزراعية وتسليمها معافاة إلى الأجيال المقبلة، حفاظاً على العلاقة الفريدة التي تربط أهالي بعلبك بالأرض والطبيعة.

 

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium