تمثال الشهداء في بيروت
"لا السنّة ربحوك ولا الدروز خسروك"... أجمل ما شُتمت به حين اتّبعت هواي فانتسبت إلى أهل السنة والجماعة، وتزوّجت "من برا الملّة". ما أزعجتني يوماً هذه الشتيمة، وأعتقد أنها رسّخت صورة ذهنية جميلة عني: "اللبناني المدني".
حين اتخذت قراري بتغيير المسلك من مذهب ولدت فوجدتني فيه إلى آخر وجدت فيه شريكة حياة كاملة، كنت واضحاً في أنّي لا أغادر مذهب التوحيد بفضل روابط روحانية صوفية لا أتخلى عنها، ولو صار مذهبي في بيان القيد سنياً. فأنا ولدت موحداً، وأموت موحداً، وسأولد ثانيةً وثالثةً ورابعةً... إلى أن نُحاسب أمام سور الصين!
في أي حال، رُزقنا ببنتين. تزوجت كبيرتهما شيعياً من إحدى قرى الجنوب اللبناني، وعسى أن تكتمل دائرتي المدنية بزواج صغيرتهما من مسيحي... أقول ربما!
بعد عقود من زواجي هذا، ما زال موحدون كثيرون يأبون مصافحتي حتى لو صادفوني في فرح أو ترح، وما زال كثيرون في الجانب الآخر ينظرون إلي ببعض الاستهجان حين "تفقع القاف في حلقي فقعاً"، وحين لا أصوم رمضان، ثم يبتسمون سخريةً، ومرادهم أن "صلى وصام لأمر كان يطلبه، فلما انقضى الأمر لا صلى ولا صام".
إن كان "المواطن المدني" خياراً، فله ثمنه الباهظ، نفسياً، إذ يعني قطيعة تامة مع تاريخ طائفي – عسكري يُستعاد في تعبئة شعبية عارمة عند الانتخابات النيابية، "التشريعية" في دول العالم. فهذه عمليةٌ مدنيةٌ تحوّلها طوائف لبنان إلى ما يشبه آخر هجوم قبل وقف النار لتحسين شروط التفاوض، وأنت مدعو لتكون جندياً في المعركة، وإلا كنت "مرتداً عدواً للدين والناموس"، كما اتهمت في الانتخابات الأخيرة.
ما أردت يوماً أن أخسر الموحدين، ولا أردت أن أربح السنّة، إنما أردت حريتي المدنية. ومن يقف في وجه زواجي هذا، بحجة خروج من الملّة وعليها، يقف في وجه حريتي ومدنيتي، ولبنانيتي كلها.
ففي مجتمعي الباطني المغلق، أن تغادر قطيعك يعني أن تدلّ آخرين على مسرب للخروج من تحت عباءة عقل الطائفة وشيخ عقلها، وأن تقول لهم إنهم أحرار في قرار البقاء قيد السمع والطاعة أو الفرار نحو فضاء وطني رحب، والأمران لا يلائمان زعيم الطائفة وشيخها. والمدنية أن تدلهما إلى خط أحمر لا يتجاوزاه، هو أنتَ. وإلا، فلا حقّ لكّ في حقٍّ تخليت عنه بملء إرادتك. هذا حقي بـ"لبنان غداً"، ولن يسلُبَنيهِ أحد.