لا شكّ في أنّ ما تعرّض له "حزب الله" خلال 15 يوماً لا يُشبه أياً من السيناريوات التي وضعها بالحسبان، بدءاً من هجوم الـ"بيجر" وأجهزة الاتصالات اللاسلكية، مروراً باستهداف قيادة قوّة "الرضوان" وقادة الوحدات العسكرية، وصولاً إلى اغتيال رأس الهرم، أي نصرالله. وقبل أن يستطيع التنظيم استيعاب قسوة الضربة التي تعرّض لها ولملمة جراحه، كانت الطائرات الحربية الإسرائيلية التي احتلت أجواء لبنان تستهدف أعضاء في مجلس الشورى والخليفة المفترض لـ"السيّد" ومعه المجلس الجهادي، فلم يتبقَّ عمليّاً في الواجهة سوى نائب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم.
هذا "الكابوس" الذي عاشه "حزب الله"، وشكّله أكثر من 2500 هدف إسرائيلي، كان كفيلاً بإحداث ضرر جسيم في منظومة القيادة والسيطرة لأيام، ما انعكس بطبيعة الحال على المقاتلين المنتشرين في جنوب البلاد وبقاعها. ترافق ذلك مع تساؤلات بشأن مصير التنظيم واحتمال تخلي إيران عنه، حتى أنّ هذه الشكوك تسلّلت إلى جزء معتبر من بيئته الداخلية.
وفي حين أنّ هذا الأمر يبدو مشروعاً نظراً لفداحة الخسائر على الصعيدين المادي والمعنوي التي ألمّت بالحزب وجمهوره، إلا أنّ ما لم يكن طبيعيّاً بالنسبة للتنظيم حجم التخلي الذي شعر به من "بعض حلفائه الأساسيين" الذين كان يعتقد أنّهم سيكونون سيفاً في ظهره، لا مصلتاً عليه. أحد "الحلفاء" نُقل عن لسانه قوله: "ما هو حزب الله الآن؟ لقد انتهى". ترافق ذلك مع "محاولة أميركية لتنفيذ انقلاب سياسي داخلي"، وفق المسؤولين إياهم، تصدى لها وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي الذي حطّت طائرته على وجه السرعة في مطار بيروت المحاط بالنيران والدخان. ومن العاصمة اللبنانية كان كلامه واضحاً: "لا لفصل الجبهات، لا للالتفاف على حزب الله في ملفي رئاسة الجمهورية والحكومة، ولا نقاش قبل وقف الحرب".
يبدو أنّ زيارة عراقجي، التي كانت في جزء أساسي منها مخصصة لنفخ بعض الروح التي فقدها التنظيم المدعوم من إيران، قد حققت المطلوب. من حاول التواصل مع مسؤولي "حزب الله" خلال الفترة الماضية سيلحظ بوضوح تبدّل النبرة، من شبه انكسار إلى شبه نهضة. لقد استعادوا لهجة "التحدي والعزيمة"، فإسرائيل لم تترك من خيار أمامهم سوى "المواجهة". أجّلوا الحزن إلى ما بعد وقف النار وحوّلوه إلى مشاعر "غضب وثأر"، فهُم أمام حرب وجودية "واثقون من النصر فيها"، وفقاً لتعبير مصدر في التنظيم.
بدأ "حزب الله" إذاً يلتقط أنفاسه بعدما استيقظ من الصدمة. كان هذا جليّاً بخروج بعض قياداته السياسية إلى الإعلام ومراكز الإيواء في محاولات تهدف إلى طمأنة البيئة المتضرّرة على كافة الصعد بشأن المستقبل. كما تُرجم ذلك في "تعافي منظومة القيادة والسيطرة واستعادة التواصل المباشر، من نائب الأمين العام إلى آخر مسؤول بقعة عند الحدود الجنوبية"، وفقاً لمصدر في "حزب الله".
ويقول المصدر: "الوضع الميداني في الجبهة ممتاز، المقاومة تتصرّف بهدوء ورصانة، وحتى الآن لم يستطع الجيش الإسرائيلي الدخول إلى أي قرية جنوبية بشكل فعلي، رغم أنّ هذا ليس مطلوباً من المقاتلين". يشرح: "نعمل ضمن تكتيك وخطة شاملة، ليس الهدف منها أن ندافع عن بقعة محددة، بل أن نُلحق الهزيمة بالعدو".
وفي الشأن السياسي الداخلي يقول: "من يعتقد أنّه يستطيع استغلال ما حدث لفرض تغيير سياسي فهو مخطئ، وقد تسرّع البعض بالقول إننا انتهينا".
صحيح أنّ "حزب الله" سلّم الجبهة السياسية لـ"الأخ الأكبر" رئيس مجلس النواب وحليفه نبيه بري، وأودعه كامل الثقة بإدارتها، فهو الذي مارس الدور ذاته عام 2006 و"يعرف تماماً كيفية اتخاذ القرار في الظروف الصعبة"، إلا أنّ التنظيم ومعه إيران حدّداً في الوقت نفسه الخط الأحمر لأي اتفاق بسقف 1701 دون أي تعديل أو ملحقات، خاصة توسيع دور قوات اليونيفيل أو اللجوء للفصل السابع في تطبيق القرارات. لقد تعلّم "حزب الله" من تجربة غزّة أنّه لا يمكن تقديم التنازلات لإسرائيل التي ستطالب بالمزيد، وعليه "سيفاوض بالنار" لمنح بري الأدوات اللازمة لخوض معركته الدبلوماسية. تقول مصادر الحزب إنّ "قصف حيفا الأربعاء كان مقدّمة للتصعيد الذي ستشهده الأيام المقبلة، فقدراتنا تفوق تصوّر الإسرائيلي".
تشارك طهران "حزب الله" هذا التقييم، وهي أكثر العالمين بقدراته التي كان لها الدور الأكبر في بنائها، يقول دبلوماسي إيراني مخضرم إنّ بلاده أكدت لباريس أنّ الأميركيين "يتوهّمون بإمكانيّة إنشاء نظام إقليمي جديد وفقاً لرؤيتهم"، وأبلغتها أنّها يمكن أن تكون هي الجهة التي تتولى المفاوضات مستقبلاً لوقف النار بين "حزب الله" وإسرائيل. ويضيف: "قلنا للفرنسيين أن يصبروا قليلاً، بنيامين نتنياهو سيطلب منهم الوساطة لوقف الحرب بعد الضربات التي سيتلقاها الكيان. الخسائر ستكون كبيرة جداً ولا يُمكن أن تُعوّض".
لا ينكر المسؤول أنّ الجناح السياسي في التنظيم اللبناني "أصيب بصدمة" لكنه "تماسك وعاد إلى الساحة"، وبخصوص الشق الميداني فهو "سليم ومعافى". يكشف أنّ "مشكلة التواصل بين الجبهتين الأمامية والخلفية قد رُمّمت".
يردّ على سؤال بشأن اتهام الكثيرين لإيران بأنّها تخلّت عن "حزب الله"، بالقول: "استعجَلوا". ويؤكّد أنّ التنظيم "ليس متروكاً لمصيره، ولن يستطيع الإسرائيلي أن يحوّل لبنان إلى غزة. المجازر التي ممكن أن يرتكبها سيقابلها مجازر في تل أبيب وحيفا"، دون أن يوضح الجهة التي ستترجم هذا التهديد إلى واقع.
يتفق الحزب وإيران على أنّ الأولوية لـ"إطفاء النار في الداخل"، وهما مدركان لأهمية الحفاظ على "الوحدة الوطنية في لبنان" في ظلّ سعي إسرائيل لإحداث فتنة أهلية، لكنهما في الوقت ذاتها لن يتنازلا عن مكتسبات سياسية، فـ"ما لم يستطيعوا نيله في السياسة لن يأخذوه بالحرب"، يقول مطّلعون على موقفيهما.
يبدو أنّ جولات الحرب ستكون طويلة وشاقة، ومهما كانت نتيجتها لن يعود "حزب الله" الذي نعرفه كما كان. لقد اختبر كلّ شيء في أسبوعين بالطريقة الصعبة: خسر منظومته القيادية، حُيّد آلاف مقاتليه، دُمّرت مخابئه المحصّنة، قُصفت المئات من مخازن أسلحته، سوّيت مساحات شاسعة من مناطق سيطرته بالأرض، و"غُدر" من حلفاء أساسيين. وفي حين كانت قيادته بيد لبنانيين مقرّبين من إيران، انتقلت حكماً إلى طهران والحرس الثوري في الوقت الراهن، إلى حين حلّ مشكلة هذا الفراغ الكبير واختيار قيادة جديدة. أي كيان يخسر روحه في تجربة مماثلة لن يبقى على حاله.