النبطية – سمير صبّاغ
استمر الجيش الإسرائيلي بانتهاك ما تتوارثه الأجيال "النبطانية" من ذكريات تترابط مع المراحل التاريخية لتطور المدينة عمرانياً واجتماعياً. فبعد أن دمروا أحد أقدم المنازل التراثية في حي الميدان قبل أيام، عاودت الصواريخ لتستهدف أقدم الأبنية التاريخية المعروفة بجمالها العمراني وسط السوق التجاري لمدينة النبطية ليل السبت.
في أقل من ساعة، تحوّلت عشرات المؤسسات والمطاعم والمقاهي كومة ركام، قد لا تعني شيئاً للباحث في الوهلة الأولى لغياب الإصابات، لكن مع الغوص بأسماء هذه المؤسسات تجد أن لكل منها "حكاية صمود" ترافقت مع التطور العمراني الذي شهدته المدينة بالتزامن مع الأزمات التي عصفت بالوطن منذ تأسيسه عام 1920 ولم تكن آخرها الأزمة المالية عام 2019.
"حلويات الديماسي" هي أقدم هذه المؤسسات ضمن السوق التجاري لمدينة النبطية، حتى إن الشارع الذي يربط شارع حسن كامل الصباح بشارع محمود فقيه كنّي باسم "نزلة الديماسي". هذا المحل أسسه محيي الدين الديماسي، المتحدّر من مدينة صيدا، عام 1949 قادماً من فلسطين التي أصابتها النكبة عام 1948.
حمل معه الجد محيي الدين الديماسي "كل ما تعلّمه في عالم الحلويات العربية من فلسطين، فكان أول محل حلويات عربية في منطقة النبطية، ولقربه من سوق الاثنين الشعبي شكل نقطة جذب لكل الوافدين من قرى النبطية والجنوب، فكانت كل أعراسهم وأحزانهم ممهورة بختم "الديماسي" لعقد من الزمن"، وفق ما أكده الحفيد محمد الأمين لـ"النهار".
إلا أن ما تميز به "الديماسي" إلى جانب الحلويات العربية التقليدية ابتكاره خلال مسيرته كحلواني "نبطاني" ما يعرف اليوم بـ"مدلوقة النبطية" التي هي عبارة عن"فرك الكنافة المخلوط مع السمن الحموي وعلى وجهها مهلبية بالمسكة والمطيبات والمكسرات على اختلافها" بحسب الأمين.
استمر "الديماسي" وتوسع مع أبنائه وأحفاده على مر السنوات فكان شاهداً على الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982 وكذلك تضرّر في حربي 1993 و 1996 كما في عدوان تموز 2006، لكنه كان "يُرمّم ويعاود عمله دوماً" إلى أن قرّر في العام 2019 إقفاله نظراً إلى الأوضاع الاقتصادية نتيجة جائحة كورونا سيما بعد توسع عالم الحلويات بحيث باتت المنافسة التقليدية مستحيلة.
وهنا يقول محمد الأمين: "يوم قرّر أخوالي إقفال المحل عام 2019 بكيت ورفضت تصديق الخبر، سيما وأن هذا المحل ليس مورداً تجارياً لي بقدر ما هو تاريخ ممزوج بالعرق، فوالدي كان يعمل لدى جدي قبل أن يتحول إلى شريك ويتزوج ابنته، ثم يؤسس محله الخاص".
ولفت إلى أنه في طفولته ومراهقته كان يرافق جده يومياً إلى العمل "حالي حال كل أولاد أخوالي، وكنت دوماً أحلم بأن أكمل مسيرته يوماً ما، فهو علمني الكثير الكثير، فأحببت أن أحفظ إرثه في عالم الحلويات وأطوره. في العام 2020 كان موعدي مع التحدي بإعادة الترميم مع الحفاظ على طباع البناء التراثي رغم كل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي مرت علينا. واستطعت كجدي أن أبتكر في عالم الحلويات، فكانت "سوشي الديماسي" تنافس "مدلوقة النبطية" في المبيعات".
وفي معرض تعليقه على ما عاشه بعد علمه بالاستهداف قال بحسرة وعيون باكية: "بالأمس كان يوماً حزيناً كئيباً لأنه في كل مرة كان يستُهدف الديماسي كنا نعيد ترميمه، غير أن هذه المرة تحوّل إلى رماد. فهذا العدو يريد حرق ذكرياتنا تاريخنا وكل شيء يمتّ بصلة إلى ما نتوارثه عن آبائنا وأجدادنا لكن ما فشروا لن ينالوا، فستبقى المسيرات العاشورائية تمر من "نزلة الديماسي"، وسنعيد بناء ما تهدم، وإن فقدنا لمسات العمران التاريخي، وسنبقى ننتج سوشي الديماسي ومدلوقة النبطية وسنخبر الأجيال أننا لم نستسلم يوماً. فلماذا نستسلم اليوم؟ نحن كالأرزة شامخة دوماً".
صحيح أن ما أصاب "الديماسي" الأقدم في عالم الحلويات كمصاب "حلويات السلطان" الذي يروي حكاية كفاح منذ العام 1989 سرعان ما تحولت إلى "بصمة لبنانية" بفروع على امتداد لبنان. إلا أنه طالما "صاحب الأرض سلطان" فالأكيد من سيزور النبطية بعد العدوان سيسأل عن مدلوقة النبطية ومفروكة السهجوني في جوار "نزلة الديماسي" مجدداً ولو بين الركام!