د. فادي عساف
عند اندلاع الأزمات كالتي يمر بها لبنان حالياً، تُطرح تساؤلات مقلقة حول مستقبل البلاد، وجوهر الأمة اللبنانية، وضرورة إصلاح نظام الحكم، وفرص البقاء. وبين الأزمات، يلجأ اللبنانيون، منهكين، إلى الركون إلى وهم الاستقرار، مع علمهم بأن هذه الحالة لن تكون إلا مؤقتة. أما حلفاؤهم العرب والدوليون، فقد ضجروا من الأزمات المتكررة وفضّل العديد منهم الابتعاد عن التعقيدات التي أصبح يمثلها لبنان. وهكذا، ينتقل لبنان من أزمة إلى أخرى، ومن استقرار زائف إلى هدوء هش، متحمّلاً جروحاً تحول دون أيّ تعافٍ طويل الأمد.
توفر الأزمة الحالية وما نتج عنها من صراع، الظرف الملائم للبنان لإعادة النظر في نظامه المتعب من تناقضاته. هل يمكننا الاستمرار في خداع أنفسنا؟ السؤال يفرض نفسه اليوم على اللبنانيين، والجواب هو قطعاً لا: لم يعد بالإمكان الاعتماد على النموذج الذي اعتُمد عند تأسيس الدولة، والذي جرى تعويمه باستمرار بحلول مؤقتة، لضمان بقاء لبنان كدولة وأمة. بل إن هذا النموذج المركزي أصبح أحد الأسباب الرئيسية لعدم الاستقرار الذي يعيشه لبنان.
أما السؤال الآخر الذي يجب طرحه في مسيرة البحث عن مخرج لأزمات لبنان المتكررة فهو عن تحديد أو تأكيد دور لبنان وسبب وجوده. فلقد تأسس لبنان كملاذ للأقليات المضطهدة، وهو في أمسّ الحاجة الآن إلى استعادة هذا الدور.
لكن كيف يمكن إعادة إحياء هذا التنوع المجتمعي؟ وكيف نحترم رسالته الأولى مع مراعاة التحوّلات التي مرت بها المجتمعات اللبنانية؟
تكمن جذور الأزمات التي تهدد وجود لبنان منذ تأسيسه في شعور بعض الطوائف بالظلم مقارنةً بغيرها. والمفارقة هنا هي أن هذا الشعور هو ما أدى في البداية إلى إنشاء لبنان، عندما سعت أقلية مسيحية صغيرة، مستفيدة من ظروف مناسبة، إلى الخلاص من هيمنة مفروضة عليها…
إن "الهيمنة" المسيحية التي واكبت إنشاء لبنان أسهمت في التقدم وفي إبراز صورة متميّزة لوطننا في محيطه آنذاك، بالرغم من أنها أسست نظام حكم غير متوازن على حساب الطوائف المسلمة، التي انتهى بها الأمر إلى قلب النظام بدورها. وهكذا، انتقل لبنان من “المارونية السياسية” إلى “السنية السياسية”، وصولاً إلى “الشيعية السياسية”، التي صعدت في ظل الديناميات الإقليمية الأخيرة.
وكما أسهمت “المارونية السياسية” في بناء إدارة عامة فاعلة وفي إظهار المشهد الثقافي والاقتصادي للبنان، فإن “السنية السياسية” تعتز بإنجازات إعادة بناء لبنان بعد الحرب الأهلية. أما “الشيعية السياسية” التي استفادت من الاضطرابات الإقليمية ومن ظهور “الهلال الشيعي” الذي يربط بين طهران وبيروت، فقد وصلت إلى نهاية مسارها في ظلّ ظروف كارثية: دولة مفلسة، شعب يزداد فقراً، هجرة واسعة، ووجود ملايين اللاجئين في بلد هشّ أساساً.
من هذا الفشل يجب أن يجد لبنان القوة لإعادة البناء، عبر تأسيس دولة أكثر عدلاً وفعالية لحماية الأمة والحفاظ على وحدة لبنان الترابية.
حاولت كل الطوائف اللبنانية فرض هيمنتها، وفشلت جميعها. هذا الفشل يعود إلى التاريخ الخاص بكل طائفة والسرديات التي تلهمها. يحتاج النظام السياسي، الاجتماعي، الاقتصادي، والثقافي الذي سيواكب ولادة لبنان جديد إلى السماح لكل طائفة بالحفاظ على خصوصيتها، عيش روايتها الخاصة، وبالتالي الازدهار. هذا يتطلب التخلي عن نموذج الدولة المركزية، الذي لا يتناسب مع الواقع اللبناني. فمركزية الدولة دفعت كل طائفة إلى السعي للسيطرة على “المركز” من أجل الهيمنة على الجميع…
أمام العجز عن الإصلاح من “الأعلى” عبر الدولة المركزية، بات من الضروري إنقاذ لبنان من “قاعدته”: من المناطق التي تعكس في معظمها الحقائق العرقية والثقافية والدينية والطائفية. يسمح هذا التقسيم الإثني الجغرافي للمناطق بإدارة شؤونها بحرية أكبر: تحصيل الضرائب، إدارة الأمن، تحقيق العدالة التي تعتمد جزئياً على أسس طائفية، ومعالجة القضايا المتعلقة بالبيئة، الصحة، والتعليم. نقطة الانطلاق ينبغي أن تكون تبنّي مبدأ اللامركزية، مما يتيح لكل طائفة، وجميع اللبنانيين، عيش هويتهم اللبنانية ضمن دولة موحدة، مع الحفاظ على خصوصياتهم الثقافية دون فرض.
إنّ اقتراح حل لا يقتصر على مراجعة جديدة للنظام المركزي الذي أثبت عدم ملاءمته للبنان يتطلّب الكثير من الشجاعة. إن المبادرة بطرح مشروع كهذا هي ضرورة ملحة، بل أمر لا مفر منه لإنقاذ لبنان في ظل هذه الظروف الدرامية.