اتخذت قراري بالتوجه إلى مدينتي النبطية في زيارة شخصية وصحافية يومي السبت والأحد الماضيين، فأعلمت زوجتي والأهل. صُدم الجميع، غير أنهم بعد ساعات من النقاش اقتنعوا بصوابية خياري "العاقل والمجنون" في آن واحد، كما وصفه والدي قائلا: "ربيتك على ألا تمدّ يدك لاستعطاء أحد، ولولا التدمير الجزئي لمحلك ومعملك الذي أعرف كم تعبت من الصفر لتأسيسهما مع زوجتك طوال 10 سنوات، لما سمحت لك بالذهاب، فأنت وحيدي. لكني أقول لك اذهب وخاطر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه لأجل كرامة أولادك مستقبلاً". فيما زوجتي مروة ونجلي كريم (10 سنوات) وابنتي كارين (5 سنوات) طلبوا مني وعداً قاطعاً بألا أمارس "عملاً صحافياً قد يعرضني للخطر نتيجة تجوالي في النبطية". إلا أنني نكثت بوعدي، كعادتي معهم دوماً في كل ما يتعلق بالصحافة و"النهار".
كيف كانت رحلتي إلى حبيبتي النبطية؟
الانطلاقة كانت الساعة السادسة صباحاً في اتجاه صيدا حيث التقيت شباب "إسعاف النبطية" التابع لإمام المدينة الشيخ عبد الحسين صادق الذين واكبوني وصولاً إلى مقر إقامتهم في جوار "مستشفى النجدة الشعبية".
مع كل خطوة نحو النبطية، بدأ يتزايد خفقان قلبي مع سرعة السيارة الجنونية، على عكس يوم خروجنا في 23 أيلول (سبتمبر) يوم علقنا لأكثر من 10 ساعات وسط الغارات الإسرائيلية. وعلى طول الطريق، مئات المباني المدمرة وعشرات سيارات النقل المحملة بضائع متجهة نحو صيدا. وهنا شعرت بأني لست وحدي من يخاطر، بل آلاف الجنوبيين الذين كانت كل أرزاقهم واستثماراتهم كما حياتهم في الجنوب دون غيره من المناطق.
بوصولنا إلى محيط مستشفى النجدة الذي يطل على مدينة النبطية، اتجهت انظاري أولاً إلى "حي الراهبات"، فإذا به مدمر، ولم يبقَ منه واقفاً سوى ثانوية السيدة للراهبات الأنطونيات وعدد من المباني. دمعت عيناي مستذكراً حفلات ولديّ في المدرسة وانتظاري لهما يومياً عند انتهاء الدوام في باحة الحي الذي يعدّ من الأرقى في المدينة بمنازله القرميدية الجميلة المعانقة أشجار الصنوبر المعمرة.
عانقني المسعف أحمد ضاهر هامساً في أذني: "ماذا لو تشاهد مدينة النبطية؟" فأجبته: "شاهدت الفيديوات. أظنها كافية". ضحك أحمد وقال: "لن تستوعب ما جرى لمدينتنا حتى ترى بعينيك". ورغم الوعد، دفعني فضولي الصحافي وحزني على مدينتي إلى زيارتها. فكانت وقفتي الصادمة أمام تمثال الصباح، ناظراً نحو شارعي حسن كامل الصباح ومحمود فقيه حيث الثقل الاقتصادي والاجتماعي "النبطاني" الذي شاهدته مبعثراً ومحطماً، من منزل آل محيي الدين التراثي إلى الشارع التراثي في حي السرايا.
في خط واحد كان الدمار، ومعه مئات الحكايا المدفونة، وكأنه بعشوائية تناثره يحاكي تناقض المشاعر فيّ. بدأت أسير بلا خوذة وسط تحليق "أم كامل"، محاولاً استكشاف المعالم، علّني أجد نفسي مجدداً وسط أهلي "النبطانيين". فوقفت أمام مركز "الهابي لاند" المدمر حيث كنت أقول مع كل "كريسماس" لمالكه جميل بيطار: "جهّز اللعبة التي طلبتها كارين وكريم وبعتهن مع سانتا كلوز". وفي جواره شركة المهندس علي حسن التي لم يبق منها سوى الأعمدة. ورددت في قرارتي بغصة ما قلته يوم الافتتاح: "فكرتك يلي بتخلي الزبون يشوف البيت 3DVirtual فريدة، الف مبروك".
وبعدها كانت وقفة الوجع الأكبر لي بالقرب من أدراج محال الشهيد صادق إسماعيل (عضو المجلس البلدي)، فإذ بي أتذكر توقفي عنده دوماً ليردد على مسمعي: "محلولة. ما تعتل همّ. صادق حدك ومعك". وفي الجهة المقابلة شاهدت الرصيف خالياً حيث كان يقيم "المضافة" كل يوم 13 من عاشوراء ويتصل بي ليؤكد تحضير الفريسكو والبوظة والآيس كريم. وعند الانتهاء كنا نختلف لرفضي تقاضي ثمن البضاعة، وهو يقول لي: "يا خيي يا سمير أنا عامل المضاف انت شو خصك؟ لازم تاخد مصاري". وهذا الحديث كان يتكرر بيننا بحرفيته كل عام، فهل يكرره معي يا صادق نجلك حمزة العام المقبل؟
مع اقترابي من السرايا الحكومية، اتجهت مسرعاً نحو السوق التراثية حيث البناء تحول إلى تراب، فلم أعرف أين كنا نلتقي كل يوم عند حلويات الديماسي بضيافة صديقي محمد الأمين! مشيت والركام نحو منزل الشيخ علي صادق الذي خرجت منه إبان تغطيتي الحراك الشعبي عام 2019 مسنّة رافعة العلم اللبناني من شرفة منزلها التي سبق أن خطب منها الرئيس نبيه بري مع محمود فقيه وداود داود داعياً إلى المقاومة عام 1985. لم أجد المنزل.
في تلك النقطة، وأمام هول ما شاهدته من حرق للذكريات، قررت التوجه إلى حارة المسيحيين وحي الميدان حيث منزلا جدي وعمي (والد زوجتي) المدمران. استقللت السيارة لأكسب الوقت لأني شعرت بأن الحرب إذا استمرت فلن أشاهد هذا الحي مجدداً. وبالفعل، ما هي إلا ثوانٍ حتى حصلت غارة على الحي لتدمر ما تبقى من أبنيته، دون أن أتمكن من إلقاء نظرة الوداع عليه.
وبعد ليلة عصيبة بالغارات المتنقلة عايشت خلالها كيف يتعامل "إسعاف النبطية" المكون من متطوعين فقط بكل تفانٍ وإخلاص ونشاط في ظل ضعف إمكانات الدفاع المدني وشلل إسعافي الرسالة والهيئة بفعل استهدافهما المباشر، خفت ألا أستطيع النوم. إلا أن هواء النبطية النقي ووجودي على مقربة منها أشعرني بطمأنينة فقدتها منذ نزوحي مع العائلة إلى بيروت. وبالفعل، نمت ملء جفوني إلى أن أيقظني سائق الشاحنة والرافعة التي ستحمل المعدات من معملي في كفررمان.
عندما وصلت إلى محلي وشاهدت بأم العين حجم الدمار الجزئي، حبست دمعتي وكبتّ حزني مستذكراً فرحتي يوم الافتتاح عندما قدِم أستاذي غسان حجار من دون إعلامي ليشاركني الفرحة. بدأ العمال بجمع ما تيسر من المعدات والآلات بسرعة فائقة لئلا نُستهدف، فيما خطوت نحو مكتبي المحطم الذي كان يشهد يومياً نقاشات حول سبل التطوير والتوسيع مع عدد من الأصدقاء، لأنفض عنه الركام بحثاً عن بطاقتي الصحافية الأولى مع "النهار"، فلم أجدها.
وفي ختام رحلتي الخاطفة عدت إلى مركز "إسعاف النبطية" لأودّع المسعفين الذين استضافوني، وطلبت أن أبقى معهم، لكنهم رفضوا وقالوا لي إن الوضع قد يكون خطِراً. عدت بمواكبتهم إلى أن وصلت إلى المصيلح، وكنت قد تمالكت نفسي، وهناك رحت أبكي كالطفل الذي فارق أمه خائفاً أن يفقدها إلى الأبد.