لينا إسماعيل
من ينسى الاتصال "الصعب" الذي تلقّاه رئيس مركز الدفاع المدني في بعلبك بلال رعد من الجيش الإسرائيلي قبل أيام، لينذره بضرورة إخلاء عدد من القرى. في حينه سعى رعد لتوضيحات قصوى بغرض معرفة كم من الوقت تبقّى قبل بدء القصف. وكان جلّ همّه أن يحمي أبناء المدينة والبقاع، ويخوّلهم الحصول على متسع من الوقت للمغادرة بأمان. بلال نفسه استهدفه الطيران الإسرائيلي في غارة غادرة أمس على مركز الدفاع المدني، وقد استشهد مع نحو 15 من زملائه، في حين كان في المركز نحو 20 موظفاً، ولا تزال الأشلاء موزعة في المكان الذي تحول إلى كتلة ركام ورماد.
المركز
هناك قبل الغارة، تجمّع عدد من عناصر الدفاع المدني في بعلبك داخل مركزهم في بلدة دورس، يبحثون عن دقائق لراحة أجسادهم التي أُنهكت عقب مهماتهم في انتشال ضحايا الغارات، وآخرها غارة سابقة في بعلبك. ولكن سرعان ما انقضّت عليهم غارة إسرائيلية عنيفة، لتجعلهم أشلاءً مبعثرة، مما استدعى الحاجة الماسّة لإنقاذ من كان ينقذ الناس، من تحت ركام ما حلّ بهم.
"ماعاد عنا دفاع مدني، شبابنا راحت".
هكذا انطلقت صرخات الأهالي في لحظة إدراكهم، حين صدمتهم حقيقة أن الغارة استهدفت المبنى بشكل مباشر. لم يستطع أحد استيعاب الفاجعة.
كان عقلهم في حالة من الإنكار التام لهذا العمل الوحشي، كيف يمكن أن يُستهدف مركز إنساني بوحشية؟ كيف يمكن أن يُقصف فريق بأكمله يعمل بلا كلل منذ 23 من أيلول (سبتمبر) الفائت حتى لحظة الاستهداف، حتى أن غالب أفراده رفضوا زيارة عائلاتهم؟
ولا تزال تتواصل جهود البحث عن العناصر في هذه اللحظات، حيث تمّ العثور على 13 شهيداً وثلاثة جرحى، ومَن يتأمّل الخراب الذي خلّفته الغارة، ويرى كيف تشتتت آليات الدفاع المدني العملاقة في موقع الاستهداف، يستطيع أن يعي عمق فظاعة هذا الهجوم، ويظن أنه كان موجّهاً لمعسكر أو منصات إطلاق صواريخ، كما يحدث دائماً عندما تبّرر إسرائيل جرائمها. لكن الحقيقة والخطر الأكبر هو أن الهدف كان استهدافاً مباشراً لكوادر إنسانية من فرق الدفاع المدني الذين واجهوا مجازرها بصلابة، وهذا يُعتبر انتهاكاً فاضحاً للقوانين الدولية والإنسانية، التي تنصّ صراحةً على وجوب احترام وحماية العاملين في المجال الطبي العسكري والمدني في جميع الظروف.
جريمة حرب
إنّ الهجمات المتعمدة التي تستهدف العاملين في مجال الإغاثة، وتستهدف المنشآت الصحية، تمثل جريمة حرب، وفقاً لما نصّت عليه المادة 8 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، والمادة 85 الفقرة 5 من البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977.
رئيس مركز الدفاع المدني الإقليمي في بعلبك، الشهيد بلال رعد، الذي كان قبل ساعات قليلة من استشهاده يجسّد روح التضحية، ويشارك بنفسه في جهوده الإغاثية، كان يحمل في قلبه خوفاً عميقاً على قلعة بعلبك من استهدافها. وعندما التقته "النهار" خلال استهداف المنشية، انهمرت دموعه، حيث بكى مثل الأطفال على مصير مدينته، قائلاً بلكنته البعلبكية المميزة التي عُرف بها كما عُرف بدماثة أخلاقه: "أتمنى أن أكون شهيداً في سبيل مدينتي وأهلها وقلعتها، إذا كان دمي هو الثمن لإنقاذ مدينتنا وقلعتنا، فليكن دمي فداءً لها.".
وتحدث بتأثر عميق عن عناصره (خلال إعداد مقال لـ "النهار" يستعرض المهام المنوطة بهم)، متفاخراً بشجاعتهم في هذه الحرب العنيفة، قائلا: "هم الجنود المجهولون، أولئك الأبطال الذين يظل كثيرون بعيدين عن معرفتهم، لكنهم دائماً يتواجدون في الصفوف الأمامية، يتقدّمون بشجاعة تتجاوز حدود الكلل، في مواجهة المجازر الإسرائيلية".
المقداد
ورأى عضو لجنة الصحة النيابية النائب الدكتور علي المقداد في تصريح لـ " النهار"، أن الهجمات الوحشية المتعمدة التي يتعرّض لها القطاع الصحي، والمرافق الصحية والإنسانية وسيارات الإسعاف والأطباء والممرضون ورجال الدفاع المدني، تشكّل جريمة، وآخر هذه الاعتداءات كان باستهداف" مركز بعلبك للدفاع المدني، حيث سقط ١٧ شهيداً، فضلاً عن الجرحى والمرضى في لبنان. إن هذه الأفعال تمثل انتهاكات صارخة وخطيرة للقانون الإنساني الدولي، تستدعي وقفة حازمة من المجتمع الدولي. فالمادة 24 من اتقافية جنيف الأولى تؤكّد على ضرورة احترام وحماية الأفراد العاملين في الخدمات الطبية الذين يتفانون في البحث عن الجرحى والمرضى وجمعهم ونقلهم وعلاجهم، من دون استثناء في أي ظرف من الظروف، وتبرز المادة 11 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، أهمية حماية واحترام وسائل النقل الطبية في جميع الأوقات، وتمنع تعرّضها لأي شكل من الاعتداء".
وأضاف: "إن هذا الأمر يُعنى بالمجتمع الدولي، ولكن بعد انقضاء أشهر على العدوان والقتل والتدمير، لم نسمع له صوتاً ولم نشهد له تأثيراً، ولا أُبالغ إذا قلت إنه متواطئ إلى حدّ المشاركة".
بلدية بعلبك
وأكّد رئيس بلدية بعلبك مصطفى الشل لـ"النهار"، أنّ استمرار اعتداءات العدو وارتكابه للمجازر لن يزيدنا إلّا إصراراً وثباتاً على خياراتنا، "وهذا العدوان الهمجي الذي استهدف مركزاً إنسانياً ليس سوى تأكيد على همجية عدونا. واتوجّه بأحر التعازي إلى عائلات الأبطال الشهداء الذين بذلوا الغالي والنفيس في سبيل بعلبك، متجاهلين كل المخاطر التي قد تواجههم".
أحد القاطنين جوار المركز، علي شحادة يقول لـ" النهار": "كنا نعتقد أن المركز بعيد عن أهداف إسرائيل لكونه مركزاً إنسانياً، لذا فضّلنا البقاء في منازلنا، حيث نعرف المبنى جيداً وكل من فيه، وندرك تماماً طبيعة هذا المركز ودوره المدني والإنساني الخالص".