تمّ الاعتراف من قبل الأطراف المتقاتلين بإنجازات إسرائيل التكتيكية في لبنان. ورغم ذلك يشير العديد من المتابعين إلى عدم وجود أيّ خطّة إسرائيلية عملية لإنهاء الصراع القائم. ويشير المراقبون إلى أنّ هناك انفصالاً واضحاً بين الوسائل والغايات. ويبدو أنّ إسرائيل تتبع إستراتيجية العقاب الجماعيّ وتحمّل السكان المدنيين خاصة داخل المجتمعات الشيعية مسؤولية تصرّفات "حزب الله" الذي يقاتل في وسطها.
ولم تُعلن إسرائيل بشأن غزة ولا بشأن لبنان خطّة "لليوم التالي" لإنهاء الحملات العسكرية . فقرارات الحرب تتطلّب وضوحاً بشأن الأهداف. وبدون خطة واضحة لما بعد الحرب يمكن للحملات الإسرائيلية العسكرية أن تؤدّي إلى الفوضى.
وفي هذا السياق لا يتجنب رئيس الوزراء الإسرائيلي الفوضى التي سيخلقها الصراع، بل خطّته غير المعلنة هي الوصول فعلاً إلى الفوضى في لبنان والأراضي الفلسطينية. فرئيس الوزراء الإسرائيلي مصمّم على حماية سلطته السياسية الداخلية بأيّ ثمن، ومقتنع بأنّ أمن بلاده إلى جانب مستقبله السياسي يعتمد على إطالة حرب الاستنزاف وجعل غزة ولبنان بدون أيّ سلطة. وهو ينتظر تسلّم الرئيس الأميركي دونالد ترامب مهامه لتأمين دوافع توسعية في فلسطين، وردع إيران من جهة أخرى لإضعاف الحزب ونشر الفوضى في لبنان. وسيؤدّي ذلك إلى أشهر حامية عسكريّاً حتّى بداية السنة المقبلة.
الدمار الواسع في لبنان يشكّل حملة واسعة هدفها الرئيسيّ زيادة التوتّرات اللبنانية الداخلية. فالدمار المنهجيّ في جنوب لبنان والبقاع وضاحية بيروت أدّى إلى تهجير مليون لبنانيّ، والمخاوف كبيرة من أنّ ذلك قد يؤدّي إلى توتّرات اجتماعية قد تسرّع انهيار البلد.
دعوة نتنياهو في أوائل تشرين الأوّل "المسيحيين والسنة والدروز" إلى الوقوف في وجه الحزب لاستعادة بلدهم لا يشير إلى أنّه يتوقّع انتفاضة لبنانيّة ضدّ الحزب، لكنّه يدرك أنّ إلقاء اللوم على الحزب سيزيد التوتّرات في لبنان وفي السياق ستخفّ التهديدات المستقبلية على إسرائيل لانشغال الأطراف بخلافاتهم الداخلية.
إنّ استهداف المدن الشيعية واللاجئين الشيعة في المناطق المسيحية والدرزية والسنية شجّعت على اعتبار الشيعة تهديداً لسلامتهم. خاصّة وأنّ هذه الحملات العسكرية هي دون أهمية عسكرية تُذكر لأنّها تستهدف المقاتلين وليس القيادات، وتقتل المدنيين ممّا يزيد التوتّرات الاجتماعية بين الطوائف اللبنانية.
ولكنّ التعويل على نشر الفوضى في لبنان قد لا ينجح من جهة لأنّ العديد من الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة والدول الأوروبية قد تدفع ثمن هذه الفوضى، كما أنّ إيران ما زالت تعوّل على دور الحزب في لبنان، وتريد المحافظة عليه رغم الضغط اللبناني الداخلي المتزايد لنزع سلاحه، لأنّه يشكّل بالنسبة إليها حصناً ضروريّاً ضدّ إسرائيل.
على الرغم من فقدان الحزب العديد من قياداته وقدراته، وما زال لديه ما يكفي من القوة العسكرية لمنع إسرائيل من التقدّم على الارض في العديد من الجبهات، وهو يشنّ على المناطق الشمالية من إسرائيل هجمات صاروخية، ووصلت مسيّراته إلى قلب الدولة العبرية، ما يعوّض على إخفاقاته الكبيرة خلال الأشهر الماضية. وهو يعوّل على حرب استنزاف للبقاء كعنصر فاعل في المعادلة.
كما أنّ "حزب الله" يخطّط لمستقبله بعد غياب أمينه العامّ السيّد حسن نصرالله، وقد يجذب بعد انتهاء الحرب جمهوراً إضافيّاً عبر انطلاقة جديدة له على الساحة السياسية وإضفاء الشرعية على قيادته الجديدة.
ويمكن للحزب أن يتعافى ولكنّه سيحتاج إلى التغلّب على عدد من التحدّيات: أوّلها التحوّل من جيل المؤسسين إلى جيل الشباب دون توتّر داخل الحزب، وعليه منع إسرائيل وحلفائها من استغلال هذا التوتّر لأغراض استخباريّة. وسيتعيّن على القيادات الجديدة التعامل مع هذه الفرضية بحذر شديد نظراً إلى الخروقات التي طعنت بقيادات الحزب. ويشكّل التحدّي الثاني الانقسام الجغرافي بين الشيعة المتحدّرين من عشائر عديدة تمكّن نصرالله من انصهارها تحت راية الحزب، وهذه الاختلافات الاجتماعية والاقتصادية محتملة بعد انتهاء الحرب، نطراً إلى الوضع الهشّ في البلد. أمّا التحدّي الثالث فهو العلاقة مع إيران. يحتاج الحزب بعد أن خسر الكثير من موارده الاتكال على التمويل الخارجيّ، فهل سيكون هذه التمويل كافياً أم أنّ الحزب قد يعتمد على موارد الدولة اللبنانية للخروج من هذه الحرب المدمّرة؟ وماذا ستكون ارتدادات ذلك على علاقته مع الفرقاء الآخرين؟
والسؤال المطروح هو هل هناك مخرج للبنان؟
في الآونة الأخيرة كان لبنان محكوماً عليه إلى أجل غير مسمّى أن يكون دمية في الصراع الطويل بين إسرائيل من جهة وإيران والحزب من جهة أخرى (تعادل الرعب). ولكن بعد هذه الحرب المدمّرة يمكن للبنان تحسين وضعه من خلال ديبلوماسية شاملة وحوار وطنيّ صريح والتزام دوليّ بإعادة بناء السلطة والدولة، للتوصّل إلى هذا الهدف يجب التعويل على هذه العناصر لكي تتقدّم جنباً إلى جنب، وسيتطلّب ذلك جهداً متضافراً من واشنطن وباريس والدول العربية. ويعود على الدبلوماسية الشاملة ضمّ وتعاون إيران لمنعها من أن تلعب دوراً سلبياً في المراحل الانتقالية التي ستتبع اتفاق وقف النار، وأمام ضغط الإدارة الأميركية الجديدة، ستجد إيران نفسها مضطرّة إلى التوقّف عن زعزعة الوضع الإقليمي لأنّ استمرارها في سياستها الإقليمية سيرتدّ عليها سلباً. لذلك يحتاج البلد إلى حوار وطنيّ لملء فراغ السلطة والتوافق حول الإصلاحات الدستورية التي من شأنها أن تساعد على ضمان السلم الأهليّ بين الطوائف ووضع إستراتيجية دفاعية تمكّن الدولة من احتكار السلاح. وسيكون من الضروري الالتزام بإعادة بناء مؤسسات الدولة والاقتصاد لتنفيذ وقف إطلاق النار على المدى الطويل، والذي يحتاج إلى القوّات المسلحة اللبنانية التي تعمل حاليّاً بشقّ النفس منذ الانهيار الاقتصاديّ والماليّ عام ٢٠١٩.
وفي حال عدم تقيّد اللاعبين بهذا الجهد سيؤدّي المسار الحاليّ للحرب إلى مزيد من الاضطرابات في لبنان، حيث تواصل إسرائيل الردّ على هجمات الحزب بعنف غير متناسب يؤدّي إلى مزيد من النزوح الجماعي. وستكون الحملة العسكرية الإسرائيلية بالنسبة إلى المدنيين كارثية. مع العلم أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي سيستفيد من الفترة الفاصلة لتسلّم ترامب الرئاسة لكي ينفّذ خطّته العسكرية التوسعية، وفرض شروطه لبناء شرق أوسط جديد.