"هياه نزل" أو "الله أكبر" أو "يا زهراء"... بهذه العبارات وبأخرى، بات البعض يقف ليشاهد سقوط الصاروخ على مبنى مؤلف من طبقات عدّة ليسوّيه بالأرض ويتحوّل ركاماً.
يصطف الناس بعد تهديدات المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، التي تطالب السكّان بالإخلاء، في محيط المناطق المحدّدة على الخرائط بانتظار اللحظة. ولكنّ أي لحظة؟
الأمور لم تصل إلى هذا الحدّ فقط، بل انتشر اليوم مقطع صوتي يحدّد صاحبه للناس الأماكن التي يمكن التواجد فيها لـ"الاستمتاع بالمشاهدة ". وسواء كان هذا المقطع "تعليمات حقيقيّة" أو من باب الفكاهة، فإنّه يستدعي طرح السؤال الآتي: إن كانت اسرائيل "تنتشي" بمشاهد الدمار التي تتسبّب بها في لبنان، فما الذي يدفع لبنانيين إلى أماكن تقع بالقرب من مبان مهدّدة بالاستهداف؟ وهل مشاهد العنف المتكرّر بلّدت الأحاسيس وخدّرتها؟
هي ليست مأساة الحرب وحدها، بل مأساة الاعتياد عليها، لا بل وانتظارها. أن تقف بلا أي صفة، منتظراً كارثة قد تتحوّل إلى كارثة أخرى، متأمّلاً اندثار قصص أناس تحت الركام وفقدان أرزاقهم وحياتهم التي تغيّرت إلى الأبد هي المأساة بعينها.
هذا الاعتياد الذي بات معظم من يقف لمشاهدة الغارات يعاني منّه إن دلّ على شيء، فهو أنّ الحرب والموت والدمار باتت مع مرور الوقت مجرد مشهد مألوف وسطحي. وكلّما زاد هذا العدد الهائل من المتفرّجين، زاد ابتعادهم عن عذابات الناس أثناء الحرب واغترابهم عنها.
"لي بده يتفرج في يطلع على جسر المشرفيّة من فوق وكمان على دوّار الطيونة". بهذه الكلمات توجّه صاحب المقطع الصوتي المنشور على مواقع التواصل إلى "الجماهير" للحضور إلى أماكن في محيط الغارات في الشياح صباح اليوم.
أحد الزملاء في "النهار" الذي اضطر إلى ترك منزله في المنطقة بعد التهديد، توجّه إلى محيط المبنى المهدّد بصفته الصحافية ليفاجئ بكم هائل من المنتظرين لتوثيق اللّحظة.
بقول ع. ز.، وهو أحد الذين توجّهوا إلى محيط المكان المستهدف في الشياح، لـ"النهار": "الغارات أصبحت جزءاً من يومياتنا. نحن لم نغادر المنطقة أساساً وبما أننا هنا، نأتي لنشاهد ما يفعله العدوّ الإسرائيلي بأحيائنا ومنازلنا وأرزاقنا".
ويضيف: "نأتي أيضاً لمساعدة بعض الأهالي إمّا قبيل الغارات لجمع أغراضهم، أو بعدها لانتشال ما يمكن انتشاله من تحت الركام".
وبما أنّ ظاهرة المشاهدة هذه أصبحت روتيناً يومياً وهي لا تقتصر على الحرب فقط، بل في الإشكالات وحوادث السير أيضاً، تحدّثت "النهار" مع المعالجة النفسية السيدة ماري أبو هلّون للوقوف على مخاطر هذه الظاهرة.
تذكّر أبو هلّون بحوادث الانتحار عبر البثّ المباشر على مواقع التواصل، وتشير إلى أنّ ظاهرة العنف عموماً وعلى مواقع التواصل خصوصاً ليست جديدة. وتعود إلى مقاطع فيديو الإعدام التي كان يبثّها تنظيم "داعش" وعدد المشاهدات التي كانت تحصدها، مشيرة إلى أنّ "العنف أصبح ظاهرة عاديّة، لا بل إن البعض يعمد إلى تسخيفها".
تشرح المعالجة النفسية أنّه "مع كميّة الدمار المتكرّرة والهائلة للأسف، يتحوّل الإنسان إلى ما يسمّى بالـ survivor mode، أو بمعنى آخر الآن دورهم وليس دوري أو أنا لا أخاف وأنا غير معنيّ بالحدث بل فقط قريب منه".
وتقول: "كأنّ الناس تضع مشاعرها في هذه اللحظة جانباً وتستخدم دفاعاتها النفسية كالإنكار مثلاً . والظروف التي مرّ بها لبنان جعلت المواطنين سريعي التأقلم، إلّا أن هذا التأقلم سيف ذو حدّين".
تصف أبو هلّون ما نمرّ به بـ"عصر السادية" ولذّة مشاهدة الألم والدمار، مع تغيّر النظرة الصحيحة لما يجري من حولنا وعدم وعي مخاطره، وتحذّر من أنّ مشاهد العنف تبقى في ذاكرتنا ولو اعتقدنا بأنّها ستختفي. وتقول: "بل على العكس، تبقى وتتحوّل إلى اضطرابات نفسيّة ومآسي وإدمان، وقد رأينا آثار الحروب السابقة".
ولأنّ الحجر قابل لإعادة الإعمار أمّا البشر فلا، تحذّر أبو هلّون من عدم تمكّن الناس من الاعتياد على حياة من دون عنف، وتقول: "أتمنّى أنّ يعي من يقف لتوثيق مشهد سقوط المباني أن لهذه البيوت أصحاب، وأن يعي مخاطر تواجده في هذه الأماكن".
وتضيف: "مواقع التواصل لعبت دوراً مؤذياً في هذا الإطار ولم يعد هناك أيّة محرّمات".