صورتان في صورة واحدة، كلّ واحدة توثّق مأساة ووجعاً وصموداً، في صورته الأولى يقف يوسف الملّاح في عام 2005 على أنقاض الفجوة العميقة التي عرّت أرض الوطن وشعبه يوم اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وفي الصورة الثانية، استراحة البطل وسط الركام والأنقاض بعد استهدافات إسرائيل المتواصلة بيروت.
صورتان للوجه نفسه، للوفاء عينه، صورتان تختصران 19 عاماً من رسالة لم تقتلها الشدائد والأزمات، لم تلتهمها النيران رغم كلّ المخاطر والتحدّيات التي واجهته ولم تنل من عزيمته بكلّ الموت والأشلاء والدمار الذي يُحيط به.
ملامحه منهكة، جسده لم ينم أياماً وأياماً، عيناه تغمضان ساعة أو ساعتين قبل أن يُعاود البحث عن المفقودين والجرحى تحت المباني المستهدفة. شاهدٌ على وجع لا يعرف الاستكانة، على دماء نُزفت من تحت الحجارة والركام، وقصص لا تنتهي، ومع ذلك يحمل الأمل ويمضي...
انسكاب الضوء وسط الظلمة.
قد يتساءل البعض لماذا الحديث اليوم عن يوسف الملّاح في هذا الوقت تحديداً؟ لأنّه ببساطة حاضرٌ هناك بين الناس والأبنية المنهارة، يقاوم على طريقته همجيّة العدوّ وإجرامه.
تسأل يوسف عن هذه الصورة التي انتشرت، 19 عاماً بين الصورة الأولى والصورة الثانية، يقول لـ"النهار" إنّ "صوت الأنين واحد ودموع الناس واحدة والشهادة واحدة والجرح واحد. لا يمكن التمييز بين دمعة وأخرى، وبين منطقة وأخرى، للأسف ما يجري يُشبه النار التي تحرق وتخنق، المشهد منذ عام 2005 وحتى اليوم واحد، مشهد الدم والضحايا والشهداء، ولا شيء يخفّف من ثقل هذا الجرح سوى نخوة الشعب اللبناني".
متى ينتهي كلّ شيء؟
عندما تنظر إلى يوسف الملّاح تشعر تلقائياً بثقل مسؤوليته، وكأنّه يحمل الدنيا على كتفيه ويمضي. ومن بين الدخان والأنقاض، يخرج طيفه في كلّ مرة ليقول لنا جمعينا "في أمل"، "ما في شي مستحيل"، "ما تخافوا".
من اغتيال الرئيس رفيق الحريري إلى انفجار المرفأ وزلزال تركيا والانفجارات الإسرائيلية في بيروت، لم يسأم يوماً من حمل حياته بين يديه وتلبية النداء. ورغم كلّ هذه السنين، يعترف لي قائلاً: "أسأل نفسي: يا ترى متى ترتاح هاتان العينان من مشاهدة هذه المشاهد القاسية، لتنظرا إلى شوارع الوطن وأحيائه نظرة أخرى أكثر فرحاً؟ متى سيأتي اليوم الذي أقول فيه لنفسي أنّ هذا الحريق أصبح ذكرى، وهذا الانفجار لن يتكرّر أبداً؟ هذا ما يعزّ عليّ ويحزنني".
لا يتحدّث يوسف الملّاح باسمه فقط، يُصرّ في حديثه أن يتحدّث بصفة جماعيّة، كما اعتاد العمل مع فريق في الدفاع المدنيّ. يؤكّد أنّ "هناك زملاء لي في خطّ الدفاع الأوّل، جميعنا نواجه الخطر نفسه، ومع ذلك، لا نتوانى عن القيام بواجبنا بفخر والتزام وحبّ. نحن أشبه بأوركسترا وطنية، لكلّ فرد فيها دوره لتكتمل المعزوفة بإيقاعها وحلاوتها. لا أحد يعمل منفرداً، نحن فريق واحد".
يسير الدفاع المدني بين القذائف والدمار لإنقاذ الناس، لكن ما تراه عينا يوسف قد لا توثّقه أيّ صورة أو كاميرا. يتذكّر جيّداً "صوت الأنين من تحت الركام، وصرخات الاستغاثة التي تكون مخنوقة وخافتة، الأشلاء التي تختنق تحت الركام. ما أراه مجموعة صور متزاحمة كتزاحم الأبنية المتساقطة والمتلاحمة في ما بينها، من أطفال ونساء ورجال وشهداء. ركام، دمار، مبانٍ سوّيت بالأرض، ما تشاهده عيوننا في منطقة الخطر تُعيد الكاميرات تصويره بعد الخروج من دائرة الخطر".
"طالما عندك قدمين، يعني إنتِ رح تطلعي عليُن"
قد يصعب اختصار كلّ المواقف القاسية التي واجهها يوسف الملّاح ورفاقه منذ عام حتى اليوم، لكنّه يتذكّر حادثتين أخيرتين طُبعتا في ذاكرته. الحادثة الأولى كما يرويها يوسف هي "استهداف الجيّة وإنقاذ شابّة من بين الركام. فبعد مرور ساعتين، طلبت منّي أن أقوم ببتر ساقها حتى نتمكّن من انتشالها، لكنّني رفضتُ ذلك وحاولتُ تهدئتها مع الفريق. وأتذكّر جيّداً ما قلته لها "طالما عندك قدمين، يعني إنتِ رح تطلعي علَيُن".
استمرّت عملية الإنقاذ، في حضور طبيب كان يمدّها بالمورفين لتتحمّل الألم، وصارح يوسف بأنّه قد يُضطرّ إلى إجراء عمليّة بتر لإنقاذها من تحت الركام. وبعد أن رفض يوسف هذا الخيار وطلب منه التحلّي بالصبر، بالفعل خرجت الصبية على قدميها، وبحسب يوسف غمره الطبيب وقال له: "إنتَ وفريقك بترفعوا الراس".
لن يغيب هذا المشهد من ذاكرة يوسف كما يصعب محو مشاهد كثيرة، وجد نفسه فيها في مواجهة مواقف صعبة وقاسية. يعترف بحديثه "أنّنا قاتلنا حتى اللحظة الأخيرة، ونجحنا في إنقاذها وإنقاذ الكثيرين. هذا واجبنا، لقد صبرنا وأعطينا الأمل رغم كلّ الموت والدمار".
أمّا الحادثة الثانية فكانت في منطقة عين الدلب، حيث نجح فريق الدفاع المدني بالتعاون مع الدفاع المدني الفلسطيني من انتشال رجل يُدعى "أبو قاسم". وبعد ساعات من العمل لإخراجه من الحفرة، استدار نحوي ووجهه مغطى بالغبار فعرفني. تلك اللحظات الجميلة التي تُبرّد قساوة النار ورائحة الموت، كانت كفيلة كما يصفها يوسف "في خلق جوّ من الإلفة والمحبّة وسط الدمار الذي يُحيط بنا. قال لي الرجل "أنا بحبّك كتير"، هذه الكلمات في حدّ ذاتها كانت دافعاً للاستمرار والصمود.
قد تمرّ لحظات كالنسمة جميلة وطيّبة تخفّف من وطأة المشهد، ومع ذلك لا يُخفي يوسف أنّ "القلب بات محمّلاً بأثقال كثيرة "على قد ما شاف"، و"كم أتمنّى أن تتوقّف العين عن تخزين واستقبال الصور حتى لا تبقى محفورة في ذاكرتي وفي قلبي".
دمار يُشبه زلزال تركيا
وعن مشاهد الدمار والعنف، يشير إلى أنّ "ما نراه اليوم في بيروت والجنوب يُشبه كثيراً ما شاهدناه في تركيا لحظة الزلزال الكبير. هذه الصواريخ تُحدث زلزالاً يؤدّي إلى تداخل الباطون والأبنية في ما بينها، هذه المشاهد تُذكّرني بما رأيته في زلزال تركيا، حيث المشاهد لا تُشبه مشاهد الدمار في عدوان تموز 2006".
يُدرك يوسف جيداً أنّه لحظة وصوله إلى مكان الانفجار أو الغارة أو الحريق، يصبح المفقود أو الشخص العالق بمثابة ابن أو أب أو أخت أو أم، في رأيه "لا يمكن إلّا أن تتبنّى هؤلاء الأشخاص الذين يحتاجونك، وعندها تتضاعف مسؤولياتك ولا تخرج من المكان إلّا بعد أن تُنجز المهمّة التي أقسمت على تأديتها. لا مجال للتراجع".
يشتهر يوسف بعبارته الدائمة "منكمّل شباب"، ويمضي في طريقه نحو الإنقاذ. ولكن متى تتوقّف عن المضي قدماً، يُجيب يوسف: "عندما تتوقّف قلوبنا عن الخفقان، عندها فقط تتوقّف حركة أيادينا وأقدامنا".