النهار

لحظات مع الماضي ومشاهد لا تُنسى: المسعف رائد جرجس يروي تفاصيل أصعب المهمّات في الحرب الداخليّة
المصدر: النهار
لحظات مع الماضي ومشاهد لا تُنسى: المسعف رائد جرجس يروي تفاصيل أصعب المهمّات في الحرب الداخليّة
المسعف القديم رائد جرجس يوثق محطات من عمل الصليب الأحمر خلال الحرب
A+   A-

 
لم يكن أحد ليتخيل أن الدردشات التي كان المسعفون القدامى يتبادلونها في جلساتهم الخاصة ستكون حقيقة ملموسة وكلمات مطبوعة على ورق. ما كان يُروى في الخفاء، وفي الجلسات الصغيرة داخل غرف مراكز صليب الأحمر، تحوّلت بفضل المسعف رائد جرجس إلى كتاب "أبيض أحمر" بفصول متعددة، ليوثق مشاهد لا تُنسى وشهادات لمسعفين قدامى اختبروا الحرب والخسارة والوجع ولحظات الانتصار.

 

لم يكن الهدف من كتاب "أبيض أحمر" التذكير بالماضي، لسنا بحاجة إلى العودة إلى تلك المحطات القاسية وتذكر ويلات الحرب الداخلية التي مزقت البلد أشلاء طائفية موزعة على مساحة هذا الوطن. كان على الناس أن تعرف الحقيقة من طرف محايد، أن تقرأ التاريخ من جهة محايدة عملت على الأرض وانتشلت الجثث وأنقذت جرحى وأدت واجبها الإنساني إلى أبعد من الواجب.

 

من هنا، دأب المسعف رائد جرجس في عمله، يُصارحني عندما أسأله عن الدافع "كنتُ أريده أن يكون تحية لكل المسعفين الذين عملوا في تلك المرحلة وحتى اليوم. وعلى أمل أن تكون هذه التحية بمثابة تحذير إلى الجيل الجديد ليعرف مدى فظاعة الحرب وتداعياتها، وما تعيشه في الحرب أصعب بكثير مما تسمعه، وما شاهدناه واختبرناه في تلك الحقبة سيبقى محفوراً في ذاكرة كل مسعف عَمِل في ساحات المعركة".

 

حقيقة مجردة على الصفحات البيضاء

 

لم تعد الذكريات التي يتناقلها المسعفون القدامى محصورة في تلك الجلسات الخاصة، اليوم قرر جرجس أن يخرجها في كلمات مطبوعة، مخطوطة بالمشاعر ومكتوبة كحقيقة مجردة على الصفحات البيضاء. يصارحني "على قد ما كانت الأمور فظيعة، وعلى قد ما شفنا استشراس بالداخل، على قد ما كانت مهماتنا إنسانية، طبعت بوحدتها معالم مؤسسة جامعة، كانت الوحيدة القادرة على اجتياز كل الحواجز وخطوط التماس".

يصعب على جرجس اختصار الحروب الداخلية في كتاب واحد، فكان الخيار اختصارها بالسنتين الأخيرتين (من عام 1989 حتى 1990). مرّت السنون إلا أن الذاكرة ترفض النسيان، هي أمينة على تلك المشاهد التي طبعت حياة المسعفين في حرب الداخل. لا يمكن حصر المهمات الصعبة التي طبعت حياته، ومع ذلك، يبقى بعضها حاضراً كأنها تعود كطيف صامت إلى حاضره اليوم. تسأله عن أصعب المهمات، فيعترف بأنها كثيرة إلا أن بعضها يصعب تخطيه، يتحدث عن "أكثر ما أثر فيّ كان يوم تسليم جثث الشباب إلى عائلاتهم، كانت الجثث مشوهة وكنا نلفها بحرام ومن بعدها بالنايلون، وكان الأهالي يبكون حرقة لتعذر رؤية أبنائهم. كانت هذه المشاهد قاسية وحزينة".

 

جثث ورائحة الموت والبارود

مشاهد متشابهة، جثث تُسلم هنا وهناك. كيف ينسى جرجس "30 جثة كانت في براد أحد المستشفيات، جميعهم كانوا شباباً وتحولوا بلحظة إلى ضحايا حرب. أما الأطفال، فكان وجعنا يتضاعف عليهم لأنهم أبرياء سقطوا على مذابح الوطن أثناء نومهم أو لعبهم. كان يصعب عليّ أن أشاهد طفلاً يموت بسبب الحرب".

 

 

وفي تلك الأحياء التي اعتاد جرجس أن يلعب بها مع رفاق الطفولة، وجد نفسه يُحارب ذكريات لا تُشبه تلك التي كبر عليها. يشير إلى أن "المعارك اشتدت في الأحياء التي كبرنا بها، لم يكن سهلاً عليّ أن أشاهدها تتخذ منحى آخر، حيث العنف والقتال يطغيان في أرجائها".

 

وبرغم من قساوة المشاهد ورائحة الموت التي كانت تعبق في الشوارع، كان النداء حافزنا الوحيد للاستمرار. لم يكن هناك وقت للضعف أو البكاء، كما يؤكد جرجس "كان علينا أن نواصل مهمتنا وننقذ أكبر عدد من الجرحى والمصابين، كانت هذه تعزيتنا الوحيدة، إنقاذ الأرواح. ولكن عندما تجلس مع نفسك تعاود الأحداث سريانها في ذاكرتك، تبكي، تتأسف، تضعف وتقوم من جديد، وكلك إيمان بأن رسالتك لم تنتهِ بعد".

 

"كمل ما توقف"

ورغم هول الحرب، نجحت الفرق الإسعافية في تخطي القذائف والألغام والمخاطر لتكون تلك اليد التي تُبلسم الجراح، وتحمل المرضى وتسير وسط الظلام والركام. ما استطاع أن يحققه المسعفون في مهماتهم، ويشدد جرجس على كلمة "كمل ما توقف" بهذه العبارة كانوا يشقون طريقهم وسط القصف والرصاص، كانت الإغاثة النداء الوحيد الذين يلبونهم حتى الموت، وقصص المسعفون الشهداء أكبر دليل إلى أن "رسالتهم أبعد من الواجب".

 

في كتاب "أبيض أحمر" بعضٌ من قصص المسعفين القدامى والبعض الآخر يواصل رسالته على أرض الواقع، كلاهما يختصران مسيرة إنسانية لا تعرف الاستكانة.

 

اقرأ في النهار Premium