دمار في منطقة الغبيري بالضاحية الجنوبية (أ ف ب)
كان الصوت مزعجاً جداً في سيارة الأجرة من تحت جسر الكولا إلى ساحة الشهداء. لم ينتظر سائقها أن أُبدي تبرّمي، فبادرني: "قصفوا الغبيري، وين بدي صلّح؟ كل الميكانسيانيي فلوا، أبو عماد أحسن واحد هونيك صار بعكار... راح محلّه. وطار الهبري ومحلات قطع الغيار، صارت تبيع قطع صواريخ".
كان هذا موجز تاريخ الغبيري الحديث، المقصد الأول في بيروت وضواحيها لكل من يريد صيانة سيارته، أو لكل من يحتاج "كوليه فرام" صعوداً إلى محرّك كامل، وما شاكل. وحتى لو كان من يتولى إصلاح أعطال سيارتك في مناطق أخرى، كالأوزاعي على الطريق إلى بيروت مثلاً، تبقى الغبيري مرجعاً لتجارة القطع المستعملة و"خراطة" ما يمكن إعادة تأهيله في المحرك. هذا كله صار في خبر كان. أجبته: "في بالدورة محلات قطع وتصليح". هذا ما لم يكن يريد أن يسمعه.
لم تستهدف الحرب في الغبيري بشرها وحجرها فحسب، إنما حرمت أهلها والمهاجرين إليها من الجنوب والبقاع ثقلاً اقتصادياً كان محورياً في حياتهم اليومية، وفي حياة بيروت وضواحيها. ويمثل انتقال هذا الدور الاقتصادي إلى مناطق أخرى، وتالياً – بالترجمة الطائفية اللبنانية للمسألة – إلى طائفة أخرى، أحد أهم التداعيات الاقتصادية والاجتماعية لما بعد "إبادة الضاحية" على شريحة واسعة من اللبنانيين، أسسوا في الشارع الرئيسي بالغبيري اقتصاداً فردياً، يتجاوز في أحيان كثيرة الفوارق الحسية بين سكانها أنفسهم، وساهمت معهم بلدية الغبيري بتقديم نفسها طرفاً فاعلاً يأخذ زمام المبادرة من دون انتظار الدولة اللبنانية، حتى وصلت إلى تعزيز الهويّة المجتمعية "الغبيرية" فيهم، وفي كل من يريد الانتساب إلى هذه الهوية، ولو من خلال "كوليه فرام".
لذا، كان مفهوماً ألا يرضى سائق الأجرة هذا بإصلاح سيارته في أحد كاراجات "الدورة"، وأن يصبر على ضجيج سيارته، ولو كان الثمن تأفف الركاب. ففي وجدانه، لا بديل للغبيري، وهي جزءٌ من كلٍّ سياسي بالدرجة الأولى، أي لا بديل للضاحية في هذه المسألة، ولا في غيرها أيضاً.
ومفهوم أيضاً أن تتحوّل مسألة تهافت اقتصاد الغبيري في المستقبل إلى أزمةٍ معقدة في غياب أي أفق لأي إعادة إعمار ممكنة، أو لأي سياسية تعويض ممكنة أيضاً، توازياً مع مسائل أخرى تبني معها اقتصاداً نزح إسمياً مع أصحابه من الجنوب والبقاع إلى مناطق أخرى، فيما بقي فعلياً تحت أنقاض ما هدمته إسرائيل في صولاتها الحربية وجولاتها المسيّرة، مثل المدينة الصناعية في صور، ومرافق صناعية أخرى في النبطية وبعلبك وغيرهما.