في الحادي عشر من شهر آب عام 1982، حطّت الأم تريزا الراهبة البالغة يومها 71 عاماً، بعد مقابلتها البابا يوحنا بولس الثاني، في ميناء جونية، الذي يبعد 10 أميال إلى الشمال من بيروت، حين كانت العاصمة تعيش أسوأ كوابيسها تحت الاجتياح الإسرائيلي.
عندما وطأت قدماها مرفأ جونية، قالت الأم تريزا "لقد جئت لأرى أخواتي، أرجو أن تسمحوا لي بالمرور". وصلت الأم تريزا بعد مناشدة من الكاتبة والناشطة أمل مكارم الشاهدة على الجحيم، الذي كان يعصف ببيروت الغربية، لإنقاذ أكثر من مئة طفل مسلم في دار العجزة الإسلامية للأمراض النفسية، قُرب مخيّم صبرا الفلسطيني.
تُرك الأطفال، الذين يعانون من إعاقة جسدية وعقلية من دون طعام أو رعاية أو نظافة، بعد أن تعرض المستشفى للقصف، خمس مرات على الأقل، لقذائف وصواريخ. لم يكن هناك ماء، وكان هناك 37 طفلاً يعانون من إعاقات عقلية وشلل وضعف بسبب المرض ونقص الغذاء.
شهد المبنى قتل 10 أشخاص وإصابة العشرات جراء الانفجارات، التي أحدثت ثقوباً في الجدران وكسرت النوافذ. عرّت إسرائيل وجع الأطفال الذين تُركوا بمفردهم بوجه القتل والدمار.
عاشت أمل مكارم في المبنى الذي كان مقراً للجنة الدولية للصليب الأحمر في نهاية شارع الحمرا، في الجزء المحاصر من العاصمة. هذا المبنى الذي كان ملكاً لعائلتها كان الشاهد الأساسي على ما كان يدور هناك.
عبقت رائحة الموت في تلك الشوارع؛ جثثٌ وجرحى في كل مكان. وبيأس شديد، ووجع لا يُضاهيه وجع، جلست أمل مكرم أمام آلة الكتابة الصغيرة الخاصة بها، وكتبت نداء الاستغاثة للعالم، وأرسلتها إلى وكالة فرانس برس، لتأتي المعجزة في اليوم التالي، حين اتصلت اللجنة الدولية للصليب الأحمر بها لتخبرها بأنها تلقّت اتصالاً من الفاتيكان، وبأن الأم تيريزا ستأتي إلى لبنان لإجلاء هؤلاء الأطفال، في الوقت الذي كان البعض منهم يُحتضر.
عندما قابلت الأم تريزا جون دي ساليس، رئيس بعثة الصليب الأحمر في غرب بيروت، سألته "ما مشكلتنا الأكثر أهميّة؟"، فأجابها: "عليكِ أن تأتي وتشاهدي هؤلاء الأطفال". ولمّا رأتهم قالت له: "سوف آخذهم"، وفق ما يتذكر من الحوار الذي دار بينهما.
عشية عيد السيدة في 14 آب 1982، اكتملت المعجزة بقرار وقف إطلاق النار لساعات، فشقّ موكب اللجنة الدولية للصليب الأحمر، الذي ضم حافلة و"جيبًا" من الصليب الأحمر اللبناني، نحو دار العجزة الإسلامية. واحدًا تلو الآخر، حملت أيادي الصليب الأحمر والأم تريزا الأطفال الذين تراوحت أعمارهم ما بين الـ 7 والـ21 عاماً ووضعهم في أربع سيارات تابعة للصليب الأحمر.
خلال عملية الإجلاء في بيروت 1982.
من شوارع مليئة بالحطام والدمار، خرجت سيارات الصليب الأحمر مغادرةً منطقة الموت والنار إلى منطقة أكثر أماناً. كان الصليب الأحمر الدولي أشبه بالجندي المجهول، والوحيد الذي كان يخترق الحواجز والمتاريس ومناطق الحرب؛ كان يخوض مهمات محفوفة بالمخاطر، رافعاً رايته البيضاء ليكون بمصداقيته الدرع الواقية للحماية من رصاص القنص والقنابل.
وحدها الأم تريزا مع الصليب الأحمر الدولي نجحا في إنقاذ هؤلاء الأطفال من الموت المحتم؛ وحده الإيمان بهذه الرسالة الإنسانية خرق أصوات الأسلحة التي خرقت جدار البيوت والمباني، فكتب لهؤلاء الأطفال حياة جديدة.
تذوق الصليب الأحمر مرارة الإجلاء والوجع. وبالرغم من نجاح عملية الإجلاء في عام 1982 لأطفال دار العجزة الإسلامية، سكب المسعفون في عام 1986 دماءهم على أرض الوطن بعد أن لقي اثنان من موظفي الصليب الأحمر اللبناني حتفهما، وأصيب ثمانية آخرون خلال عملية إجلاء مصابين. لا شيء يعلو فوق نداء الإغاثة، وفي كل مرة نقول "يخرج الأمل من الركام، وينسكب الضوء وسط الظلام".