في بلدة برغز الصغيرة، التي لم يكن يتعدى عدد سكانها 200 شخص في عام 1978، خطا 12 حماراً وعلى ظهورهم 12 مسعفاً من الصليب الأحمر اللبناني والدولي، الطرق الجبلية، بعد أن بقيت منطقة منكوبة ومقطعة الأوصل ومتروكة قرابة شهر، لا يمكن لأحد الدخول أو الخروج منها، بعد أن حوصرت خلال الحرب بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل.
من بلدة برغز، التي كانت تضم مواطنين من الطائفتين الدرزية والمسيحية، إلى بلدة صور حيث كان يتواجد مركز للصليب الأحمر الدولي، ذهب الفلاح سيراً على الأقدام حاملاً معه نداء الإغاثة وأملاً مبطناً في أن صوته سيلقى صداه في ذلك المركز. وفي 15 آذار (مارس) 1978 بدأت القصة.
هذه القرية التي كانت من قرى قضاء حاصبيا في محافظة النبطية، كانت على موعد مع مهمة استثنائية كانت الأولى من نوعها وغرابتها في مهمات الصليب الأحمر، التي وثقتها الصحف الأجنبية.
إقرأ أيضاً
"النهار" تُطلق حملة "كن شريكاً في الإغاثة"
بالأبيض والأسود تُطلّ نايلة الهاشم، مندوبة سابقة في اللجنة الدولية للصليب الأحمر وممرضة متطوعة فيه لأكثر من 20 عاماً، على ظهر أول حمار ينقلها عبر المناطق الجبلية الوعرة لإيصال المساعدات الأساسية بطريقة بدائية (من غذاء ومستلزمات طبية) بعد قصف الجسر الذي يربط البلدة ببلدات أخرى. وبرغم من أنها صورة بالأبيض والأسود إلا أن قوتها أضفت ألواناً على هذه المهمة الإنسانية التي رسمت البطولة والشجاعة والتفاني إلى أقصى الحدود.
نايلة الهاشم على ظهر الحمار
"كيف بدنا نفوت على الضيعة إذا مقصوف الجسر؟". بهذه الكلمات التي تتتحدث بها لـ"النهار"، بادرت نايلة الهاشم رحلة استفسارها مع الفلاح، وفي قرارة نفسها عزيمة لا تُقاوم "سأفعل المستحيل لإيصال المساعدات إلى هناك".
الصوت في داخلها "أرفض الاستسلام"
كانت نايلة تعرف جيداً أن الصوت الذي يهمس في داخلها لا يعرف الاستسلام في عزّ القصف والحرب. كان عليها أن تغوص بكل تفصيل لتعرف حجم المهمة المُقبلة عليها، مهمة قد لا تتكرر مرة أخرى، ومفتوحة على كل الاحتمالات.
عادت بها الذاكرة إلى جلساتها مع أحد كبار السن في قريتها حاصبيا حيث كان يردد لها دائماً: "عندما تُحاصر قريتنا، ستدخلين إليها عبر الحمار لتجلبي لي الطعام والشراب". هذه الفكرة تحوّلت بسبب الحصار والحرب إلى حقيقة، حصلت في المرة الأولى ضمن تجربة على أرض الواقع في قريتها حاصبيا قبل أن تصبح أول مهمة للجنة الصليب الأحمر الدولية تنقل فيها المساعدات إلى قرية محاصرة عبر استخدام الحيوان بدل السيارات.
هكذا تحول الحمار إلى منقذ مساعد برفقة الأبطال المسعفين الذين اجتازوا الطرق الوعرة ونصب أعينهم هدف واحد ، الوصول إلى وجهتهم برغز مهما كلّف الأمر.
وبعد أن وافقت جنيف آنذاك على القيام بهذه المهمة على ظهور الحمير، بعد 4 أيام على تقديم دليل على التجربة الأولية وتفاصيل العملية، شهدت بلدة برغز على عملية استثنائية ستبقى محفورة في تاريخ لبنان القديم.
استئجار 12 حماراً لرحلة الإغاثة
استأجرت نايلة مع فريقها في الصليب الأحمر 12 حماراً من بلدة سحمر لتحطّ رحالها في بلدة "دلافة" القرية المجاورة لبلدة برغز. باتت الحمير ليلتها هناك في انتظار انطلاق المهمة في اليوم التالي، ولكن من سيتولى رئاسة هذا الموكب الإسعافي الذي يضم الحيوانات والمسعفين؟... من عساه يكون غيرها: نايلة!
تستعيد نايلة تلك الرحلة في ذهنها، فتعود المشاهد وكأنها اليوم، على حد تعبيرها . تتذكر كيف "أطلق على الحمار الأول إسم "مرقص" تيمناً باسم الفلاح الذي رافقنا طوال فترة التحضير. كنتُ أول شخص يجلس على ظهر "مرقص" لأجتاز الطريق الجبلية الوعرة كامتحان تجريبي قبل أن يلحق بي باقي الفريق بعد نصف ساعة.
كانت الساعة الرابعة والنصف فجراً عندما انطلقت مع الحمار "مرقص" في رحلتنا الإنقاذية، كنتُ أشبه بحقل تجربة ستكشف مدى نجاح نظريتنا، خصوصاً أن الحمار كان لديه قدرة على تمييز الألغام وشمها عن بُعد لتفاديها".
على طريق هذا الوادي القاسي، استغرقت رحلة الوصول إلى القرية نحو 4 ساعات. تصف تلك اللحظات "كنت كلما تزحط إجر الحمار، قول خلص رحنا".
وصلت نايلة إلى القرية عند الساعة الثامنة صباحاً، ولا يمكن أن تنسى "كيف بدأت أجراس االكنيسة تُقرع احتفالاً بأن الفرج أخيراً حلّ على الناس هناك. هكذا دخل أول حمار محملاً بالطعام والأغراض والمستلزمات قبل أن يصل الوفد كله".
هناك قدمت نايلة الإسعافات الأولية للمصابين في القرية بما أنها ممرضة مجازة مسؤولة عن فرع تعليم الإسعافات الأولية في االصليب الأحمر في لبنان قبل أن تنتقل إلى الصليب الأحمر الدولي للعمل كمنسقة وقف إطلاق النار خلال الحرب.
نظرة الأطفال قالت كل شيء
6 ساعات قضتها نايلة وفريق الصليب الأحمر اللبناني والدولي في تلك القرية، تعترف أن "نظرة الأطفال وعيونهم قالت لنا كل شيء، ما زلتُ أتذكر حتى اليوم فرحتهم عندما حملنا في أيدينا الشوكولا والطحين والطعام، هذه اللحظات كانت كفيلة بأن تنسيني مشقة الطريق وكل المخاطر التي كنا نجتازها طوال الرحلة – المهمة. في عملي على الأرض تعلمتُ شيئاً واحداً هو أن قيمة الحياة تكمن في التفاصيل الصغيرة، فعندما تشاهد الموت وتعمل على مقربة منه تعرف أنه "ما في شي بيحرز بهيدي الدني".
"لم تكن مهمة انتحارية وإنما مهمة سهرنا كثيراً عليها لضمان نجاحها". هكذا تختصرها نايلة، التي تضيف "ما يُعزيني بعد مسيرتي في الصليب الأحمر لأكثر من 20 عاماً أنني لمستُ في ساحات المعارك والنزاعات أن شارة الصليب الأحمر كانت قادرة على أن تجعل المستحيل حقيقة، وأن مصداقيته جعلته الجهة الوحيدة المخولة الدخول في معارك النزاع والحرب وإنقاذ الجرحى والضحايا".
جرأة نايلة المجنونة جعلتها تُنفذ مهمات كانت مستحيلة على كثيرين، كانت قوية القلب وإيمانها الكبير جعلها تمضي قدماً من أجل إنقاذ الناس، هي التي تؤمن أن "لا شيء مستحيل"، نجحت في توثيق مسيرة ملهمة اختبرت الوجع، الموت، الانتصار، الأمل والفرح وقوة العمل يداً بيد". إنها ببساطة بطلة الإنسانية والمهمات الصعبة.