دمار في الضاحية الجنوبية لبيروت
تلقّى الأستاذ الجامعي علي مراد عبر هاتفه شريط فيديو أرسله صديق محذّرا إياه من قسوته: كانت تلك صور لتفجير إسرائيل منزل عائلته في جنوب لبنان.
ويروي مراد المتحدّر من قرية عيترون: "أرسل لي صديق من القرية مقطع الفيديو، وقال لي أن أحذر ولا أسمح لوالدي بمشاهدته".
في الفيديو الذي انتشر على شبكة الإنترنت، رأى مراد المنزل العائلي الذي بناه والده وأعمامه في قرية حدودية مع إسرائيل، يُفجّر على أيدي جنود إسرائيليين.
ويقول إن والده شاهد الفيديو، "لكنه كان قويا جدا عند تلقّي الخبر".
شارك مراد الصور على حسابه على منصة "فايسبوك"، محدّدا المنزل الذي يبعد "أقلّ من كيلومتر" عن الحدود بخطّ أخضر.
وكانت الهيئة الوطنية اللبنانية لحقوق الإنسان التقطت الصور من الجو، ونشرتها على موقعها الإلكتروني.
وتظهر اللقطات انفجارات متتالية لمنازل عدّة مبنية على سفح تلة. ينفجر منزل عائلة مراد، ثم ينهار مغلّفا بسحابة من الدخان.
أنشأ والد مراد، طبيب الأطفال والشيوعي البالغ من العمر 83 عاما، عيادته في ذاك المبنى. يقطن هناك منذ العام 2004 مع زوجته وابنته وحفيدته.
ويشهد جنوب لبنان الذي يعتبر معقلا لـ"حزب الله"، تبادلا لإطلاق النار بين "حزب الله" واسرائيل منذ أكثر من عام، لكن الغارات الإسرائيلية تكّثفت خلال الشهر الفائت وبدأت اسرائيل بعد ذلك عمليات برية في في مناطق حدودية باتت تشهد معارك يومية مع مقاتلي "حزب الله".
ليست هذه العملية الوحيدة التي يقوم فيها جنود بزرع متفجرات في بناء أو منازل وتفجيرها عن بعد. ويقول الجيش الإسرائيلي إنه يستهدف تدمير أنفاق وبنى تحتية ومستودعات لـ"حزب الله".
غادرت عائلة مراد القرية مرغمة، كما مئات الآلاف من سكان الجنوب.
"يتامى"
لم يعرف مراد قريته (43 عاما) قبل العشرين من عمره، أي قبل الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في العام 2000. ويقول إنه يريد أن يمنح ولديه "ارتباطا بالأرض".
ويضيف: "لكن أخشى أرى أطفالي يعيشون يتامى الأرض، كما عشت أنا"، لكنه لا يفقد الأمل تماما.
ويقول إنه يعتبر عودته الى الجنوب "حقّا وواجبا، ومن أجل ذكرى أجدادي، ومن أجل مستقبل أطفالي".
بين 20 و31 تشرين الأول (أكتوبر)، أفادت الوكالة الوطنية اللبنانية للإعلام الرسمية عن عمليات تفجير اسرائيلية في سبع قرى حدودية، بينها قرية العديسة في 26 تشرين الأول (أكتوبر).
وجاء في بيان للمتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي أنه تم استخدام 400 طن من المتفجرات لتدمير "منشأة استراتيجية تحت الأرض لحزب الله في جنوب لبنان".
في أواخر تشرين الأول، بثّت "القناة 12" الاسرائيلية مقطع فيديو يظهر أحد صحافييها إلى جانب جنود اسرائيليين، يضغط على جهاز لإحداث تفجير في الجنوب. وأثار مقطع الفيديو غضبا على مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان.
في العديسة، كان منزل عائلة بعلبكي المبني بالحجر الأبيض والمزين بالقرميد والشرفات ذات الأعمدة والذي صممه وبناه الرسام اللبناني الراحل عبد الحميد بعلبكي، قائما.
مع بدء الحرب، اشتري ابنه لبنان بعلبكي (43 عاما)، وهو قائد الأوركسترا الفيلهارمونية اللبنانية، صورا من الأقمار الاصطناعية لمراقبة المنزل الذي دُمّر في أواخر تشرين الأول بالمتفجرات.
تضمّ حديقة المنزل ضريح والديه. ويقول بعلبكي "نسعى بطريقة من الطرق إلى الحصول على صور لنرى ما إذا كان الضريح أصيب بضرر"، مضيفا بحزن "وكأنهما يموتان مرتين".
يحتوي المنزل على مكتبة واسعة من نحو ألفي كتاب ونحو 20 تحفة فنية من بينها لوحات والد بعلبكي.
ويروي لبنان بعلبكي أن المنزل كان يضمّ "المكتب الخاص" بوالده و"الألوان والريش كما تركهم قبل أن يموت (...). حتى اللوحة التي كان يعمل عليها لا تزال موجودة في مكانها".
ويضيف: "هذا المكان أكثر بكثير من مجرد جدران وأعمدة وغرف للسكن، هو مشروع رافقنا منذ طفولتنا، أثّر فينا وفي واتجاهنا نحو الفن ونحو حبّ الجمال".
"جرائم حرب"
واعتبرت الهيئة الوطنية اللبنانية لحقوق الإنسان في تقرير نشرته الاثنين أن "العملية العسكرية الإسرائيلية الرامية إلى إحداث منطقة عازلة على طول الحدود في جنوب لبنان (...) تشكّل جريمة حرب تتمثّل في التدمير غير المبرّر والممنهج للمساكن المدنية".
وتابعت الهيئة: "دمرّ الجيش الإسرائيلي، مستخدما الغارات الجوية والجرافات والتفجيرات المتحكّم بها يدويا، المباني المدنية بشكل غير قانوني وسوّى أحياء كاملة بالأرض، بكل ما فيها من منازل ومدارس ومساجد وكنائس ومزارات ومواقع أثرية".
كما أشارت إلى "تجريف الأراضي الزراعية وشبكات المياه ومحطات تحويل الطاقة ومحطات الطاقة الشمسية والآبار الارتوازية".
واستند خبراء الهيئة إلى صور من الأقمار الاصطناعية بين تشرين الأول (أكتوبر) 2023 وتشرين الأول/أكتوبر 2024، رصدت "تدميرا غير مبرّر وممنهج في ثماني قرى لبنانية على الأقل".
وتتحدّث المفكرة القانونية في مقال عن عمليات تفخيخ وتفجير لقرية محيبيب. وقالت إن صورا جوية أظهرت "تدميرا كاملا" في "القرية الواقعة على تلّة وإلى تضرّر المنازل والمنشآت المدنية التي تقدّر بحوالى 92 مبنى على الأقل".
ويشرح الصحافي في المفكّرة حسين شعبان أن ذلك "يعني أن القرية كانت خلال هذه العملية تحت السيطرة الإسرائيلية، ولم تكن مبانيها تشكّل أهدافا عسكرية، ما يجعل من الاستهداف غير مشروع".
وتوضح المفكّرة أنه في قوانين الحرب الدولية "يُحظّر مهاجمة المدن أو القرى أو المساكن أو المباني العزلاء التي لا تكون أهدافا عسكرية".
ويقول شعبان أنّ القانون الدولي "يضع قيودا على العمليات العسكرية عندما تستهدف أعيانا مدنية"، مضيفا: "لا يمكن أن تنسف قرية لأن هناك هدفا عسكريا".