بعد ليلة عاصفة بالبارود والنار، دكّت في خلالها الطائرات الحربية الإسرائيلية عشرات البلدات والقرى في محافظة بعلبك – الهرمل موقعة مزيداً من الضحايا والأضرار الفادحة، واستهدفت في ما استهدفت مبنى "المنشية" المجاور لـ "بستان الخان الأثري" وقلعة بعلبك العريقة عند المدخل الجنوبي لمدينة بعلبك، إنقشعت غمامة العدوان عن آمال مكلومة لأبناء مدينة الشمس، مشوبة بقلق بالغ على ما تبقى من معالم حضارية تنحت في ذاكرة الأمكنة وتُشكل هويتها الفريدة.
تُمثّل هذه العمارة التي تنتمي إلى عصور تاريخية عريقة، تلاقحاً حضارياً بين الحقبتبن العثمانية والفرنسية، إذ يتجلى الطابق الأرضي تحفة من زمن الإمبراطورية العثمانية، بينما يتلألأ الطابق الثاني المطل على الشارع دليلاً على تأثير حقبة الانتداب الفرنسي.
هذا المبنى االأثري أنجزه الياس أسعد باشا مطلع عام 1920، وارتبطت به قصة حب، إذ كانت زوجته من عائلة ألّوف التي تنعم بجذور عميقة في أثير المدينة، وانشأه كأول مقهى توافد عليه الضباط الفرنسيون والبعثات الأجنبية التي كانت تزور بعلبك إبان مرحلة الانتداب.
بيت الحرف البعلبكية
المنشية أو كما تعرف محلياً بـ"بيت أصيلة" تقوم على أرض زراعية استملكتها المديرية العامة للآثار، وحوّلتها موقفاً على أمل زيادة إقبال الزوار على قلعة بعلبك. ومع ذلك، بقيت خارج نطاق ملكية المديرية، وأُطلق عليه هذا الاسم لأنها كانت مركزاً لبيع الحرف اليدوية البعلبكية، ولاسيما منها العباءات التراثية "الطرق". يتشارك فيه حارث حيدر ومنال الرفاعي اللذان أعادا إلى فن التطريز البعلبكي بريقه، وروّجا لجماله عبر الثقافات الوافدة الى مهرجانات بعلبك الدولية.
تحمل "المنشية"، قيمة جمالية وتاريخية رفيعة، مما جعل المديرية العامة للآثار تتطلع بأصرار لاستملاكها من أجل أن تضمن بقاءها حيّة في ذاكرة الأجيال المقبلة، رغم أنه لم يُنفَّذ فيها أي عمل أو استثمار باعتبارها حيّزاً من المنطقة التاريخية، المرتبطة بمشروع الإرث الثقافي.
وسرت شائعات في مرحلة سابقة عن بيعها سراً بغرض تحويلها إلى مشروع استثماري سياحي، نظراً الى موقعها قبالة فندق بالميرا التاريخي، لكن تعذّر التحقّق منها.
وأيا يكن الشاري، سيظل هذا العقار جزءاً من المنطقة الخاضعة لمديرية الآثار، وبالتالي ليس ممكناً أن يتحول إلى مشروع استثماري. لكن، يا للأسف، دكتها آلة الحرب الإسرائيلية في الساعات الأخيرة، متجاوزة كل الحدود.
نسيج تاريخي وقيمة جمالية
يذكر أن "المنشية" تكتسب مكانةً متميزة أيضاً لأنها تمثل مع الأبنية التراثية الأخرى مثل أوتيل بالميرا والمنازل القديمة المجاورة، نسيجاً تاريخياً متآلفاً. إن لهذه الأبنية قيمة جمالية بارزة، بحيث تتسم بسلامتها الظاهرة وعمق محتواها. والأهم من ذلك، أنها معروفة لدى سكان المدينة جميعاً، فضلاً عن الزوار الذين يعبرون من مدخل المدينة الجنوبي المعروف بـ"مدخل بالميرا"، والذي يمثّل حلقة الوصل بين حي مار جرجس والقلعة والسوق التجارية، أي القلب النابض للمدينة. لذا، فإن العلاقة بين المكان وسكانه لا تقتصر على دائرة ضيقة من الأهالي فحسب، بل تشمل جميع زوار المدينة والمارين عبرها.
رئيس البلدية مصطفى الشل أكد لـ"النهار" عدم تضرّر آثار القلعة التاريخية، ومما قال "في خضم سعي كل الأمم الى المحافظة على تراثها، وخصوصاً التراث المعماري، نجد أن العدو الصهيوني يضرب عرض الحائط كل المعايير ويواصل تجاوزاته على تراثنا الغني".
واعتبر "أن العدوان الإسرائيلي الجائر الذي يستهدف ليس البشر فحسب، بل يطاول حضارتنا وتاريخنا وهويتنا المعمارية، يكشف عن نياته المبيّتة في محو ذاكرة المدينة. بات الأمر جلياً أن هذه الهجمات ليست مجرد اعتداءات، بل هي محاولات ممنهجة لإلغاء تاريخ عريق".
كيف نحمي تاريخنا وتراثنا؟
ووصف رئيس مركز الدفاع المدني الإقليمي في بعلبك بلال رعد لـ"النهار" شعوره المفعم بالأسى عندما وطأت أقدماه المكان إثر الغارة، بقوله: "منذ انطلاق شرارة الحرب، نكرّس جهودنا لإنقاذ الأرواح، ولكن كيف لنا أن نحمي تاريخنا وتراثنا؟ إنه شعور معقّد وغير مكتمل. فالمنشية تحتفظ في ثنايا ذاكرتنا وذاكرة كل من زار قلعة بعلبك، بصورة مدخل المدينة الذي لا يُنسى".
وأضاف: "إذا ما عدنا بذاكرتنا القريبة إلى حادثة احتراق المبنى قبل أربع سنوات، والتي آلمت الجميع، فكيف يمكننا أن نتحمل مشهد هدمه اليوم وقد أصبح مجرد كومة حجارة؟".
ورأى المحامي جاد ناصر "أن القيمة التاريخية لهذا المبنى تتجلى للعيان، ولكن قيمته الثقافية لا تقل أهمية، إذ كان المثقفون من جميع الأعمار يلتقون في طبقته الأرضية، حيث تتألق الفعاليات الثقافية التي كنا نشارك فيها. واليوم، يعصف عدوان جائر بتاج تراث مدينتنا العريق، بأسلحة ندمير أمام أنظار العالم، في مشهد يثير الروح ويناشد اليونيسكو أن تتحرك".