لطالما كانت مهنة الصيدلة تُعتبر من المهن الرفيعة في المجتمع السوري، إلى جانب الطب والهندسة، التي تشكّل بمجملها حلماً أُسرياً تدفع العائلات أولادها باتجاهه، حتى بالشدّة والضغط النفسي بغية الحصول على امتياز المباهاة بتلك التخصصات كما درجت العادة، ولو على حساب نفسية الطالب ورغباته نفسها.
البحث عن المجد الاجتماعي
يتضح ذلك الضغط من حالات الانهيار العصبي التي تصيب الطالب نفسه أو أهله إذا أخفق في بلوغ المجد المنشود، ويفسرها أكثر رضوخ الطلاب الصغار عمراً لرغبات أهلهم في إعادة السنة الدراسية مرّة ومرّتين للحصول على المجموع شبه التام لدخول تلك الاختصاصات، وفي حالات كثيرة ينتهي الطلاب من سنوات الدراسة الجامعية تلك ويتجهون نحو تخصصات حيوية كانوا منذ البدء يرغبون بها.
يحتاج طالب الثانوية عموماً مجموعاً تفوقياً ينقص بدرجات قليلة للغاية عن المجموع العام، ليؤهله لدراسة الفرع الذي سيجني له الكثير من الأموال وسيحقق له النظرة الاجتماعية المرموقة، كما يفترض. لكنّ الحصول على ذلك المجموع يتطلّب تغلّباً على المناهج المكثفة والمعقّدة وانتصاراً على سوء الواقع التعليمي وشحّ مدرسيه ومبالغ طائلة ثمناً للدروس الخصوصية.
"درست ما لا أريده"
اضطرت ريمه طيفور لاتباع نظام التعليم الموازي لتتمكن من دراسة الصيدلة في جامعة دمشق، بعد أن كانت تنقصها علامة واحدة لتدرس بالمجان، ونظام التعليم الموازي هو نظام ترميمي يسمح بدراسة التخصص الجامعي إن كان الفارق بين مجموع الطالب والمفاضلة العامة درجات قليلة.
تكلّفت ريمه وقتذاك على كلّ عام دراسي نحو 2200 دولار، أي ما مجموعه 11 ألف دولار خلال 5 سنوات دراسية حتى الحصول على الشهادة، وهذا المبلغ على حسابات النقد في سوريا اليوم، يعادل مرتب موظف حكومي لـ46 عاماً.
تقول ريمه: "لم أرغب لحظة في دراسة الصيدلة، لا يشبهني هذا الفرع ولا أشبهه، ولكن كنت مرغمة على فعل ذلك، لماذا؟، لأننا في سوريا ننظر إلى بنات عماتنا وخالاتنا وماذا درسن، ثم ننظر إلى أولاد الجيران، ثم أبناء أصدقاء الوالدين، وتدور رحى منافسة غير معلومة الأهداف أو الأسباب، وكأنّها عقدةٌ محمولةٌ من جيل إلى جيل".
التمرّد المتوقع
وتضيف ريمه: "تخرّجت بعيد بداية الحرب بسنوات، وحينها كان أطبق الحصار على سوريا، ودُمِّرت البنى التحتية، وانعدمت فرص العمل أو إمكانية جني الأموال، عملت مندوبةً طبية لشركة بقروش قليلة. كان يحتاج وصولي إلى ما دفعته على دراستي جني تلك القروش لدهرٍ بأكمله، ببساطة هاجرت إلى دبي، وكان هذا أول قرار أتخذه في حياتي وأجبر عائلتي على تقبّله".
تعتقد ريمه أنّه لا مستقبل لمهنة الصيدلة في ظلّ الواقع الراهن، هي الآن تعمل في مجال الوساطة العقارية في دبي، وفوق ذلك تحمّل نفسها مسؤولية إعادة كلّ المال الذي دفعه أهلها في سبيل حصولها على الشهادة التي تركتها خلفها في دمشق، مستهجنةً قبول أهلها كميّة الاستدانة والقروض لتدرس ابنتهم ما لا تريده، إرضاءً للمجتمع وليس لها.
مرضى لا يتداوون
يقول الصيدلاني ناظم الحرش في دمشق، إنّه بات يخجل حين يقول للمريض كم هو ثمن الوصفة التي يريد صرفها، ويتساءل: "ماذا يعني أن تقول لمواطن ممتلئ تعاسة فاتورتك 7 دولارات أو 10 دولارات أو 20 دولاراً أو أيّاً يكن؟ أنت ترى الانكسار في عينيه منذ اللحظة التي يعطيك فيها الوصفة لتراها، والطامة أمام أولئك الذين يعانون أمراضاً مزمنة تحتّم عليهم انتظام الدواء وإلّا خطر الموت، كحالات السكري والأمراض القلبية والفيروسية والدموية وخلافه".
وبحسب الصيدلانية هادية نصر، فإنّه وعلى رغم استمرار وزارة الصحة برفع أسعار الأدوية تباعاً، فإنّ ذلك لا يحقق لهم كصيادلة أرباحاً تُذكر. تقول: "الأرباح قليلة للغاية، لأنّ الأدوية أساساً تصلنا بثمن مرتفع، وفوق ذلك شهراً تلوَ آخر تنخفض مبيعاتنا إثر إحجام الناس عن شراء الأدوية، وهذا يبدو جليّاً بمقارنة مبيعات كل شهرٍ عن سابقه، وبشكل أوضح بكثير بالمقارنة بين عامٍ وآخر".
ويرى الصيدلاني حيدر الشامي، أنّ المهنة تردّت كثيراً مع توجّه مرضى كثر إلى الطب الشعبي والعلاج بالأعشاب عوضاً عن الحصول على الأدوية، قائلاً: "نفتتح صيدلية بمئات الملايين، وسنحتاج عشرات السنين لتحقيق الأرباح التي تغيّر الحال، اليوم يمكن للصيدلية أن تعين على المعيشة شهراً بشهر، لا أكثر ولا أقل، مع الأخذ في الاعتبار أنّ مئات الصيدليات فارغة أساساً من المرضى، والأسباب معروفة".
الاصطدام بالتكلفة
حاولت الصيدلانية رونا صليبي افتتاح صيدليتها الخاصة عقب تخرجها قبل عامين، لكنّها اصطدمت بالتكلفة المالية والجدوى الاقتصادية، تشرح ذلك بالقول: "يمكنك أن تفتتح صيدلية بألف دولار، هذا عدا الديكور والكساء والتجهيز والتخزين الإضافي والمساحة والموقع والإيجار، ولكن لن يكون لديك إلّا المسكنات ومضادات الالتهاب، وإن أردت صيدلية طبيعية توفر الخيارات المطلوبة فستضطر لدفع مئات الملايين من الليرات، وهذا ما لم أتمكن من فعله".
لم تجد رونا سبيلاً أمامها سوى العمل مندوبة علمية لشركة طبية تتولّى مهمّة زيارة الأطباء وتقديم شرح وتعرض لهم الأدوية التي تنتجها شركتها، ولقاء ذلك تتقاضى شهرياً مرتباً تصفه بالممتاز قياساً بالحال العام، إذ يبلغ راتبها نحو 100 دولار، وكمثلها بات يفعل معظم خريجي الصيدلة.
نقيب صيادلة حمص: معضلةٌ مركّبة
"النهار" حاورت نقيب صيادلة حمص الدكتور شادي طرابلسي بشأن واقع المهنة وخصوصيتها، وبيّن النقيب أنّه رغم الارتفاع الكبير في أسعار الأدوية التي أقرّتها وزارة الصحة لا تزال تخلق معضلة مركّبة أمام دخل الفرد، موضحاً أنّ هامش الربح الصيدلي في المبيعات هو ما بين 16 إلى 18%، وفي حال كانت صيدلية متميزة تتمكن من البيع بقيمة 2000 دولار شهرياً، فتكون أرباحها الصافية بحدود 350 دولاراً، فهل يكفي ذلك ثمناً للإيجار الشهري؟
حمص كمثال
النقيب طرابلسي أوضح أنّ مدينةً فرعية كحمص بكلّ ما مرّ عليها خلال الحرب من دمار وأزمات، يوجد فيها اليوم 4 آلاف صيدلي مسجّل في النقابة، فقط 1200 منهم افتتحوا صيدلياتهم، فيما آخرون يعملون مندوبين طبيين، والباقون بلا عمل.
بطبيعة الحال يعتبر رقم 1200 صيدلية في حمص رقماً كبيراً في مدينة نصفها مدمّر، وهناك أضعاف ذلك الرقم بكثير في العاصمة، ومدنٍ أخرى كحلب واللاذقية، فيما يبدو أنّه طوق النجاة الوحيد أمام عدم الاستسلام بعد بذل 5 سنين بين الكتب والمحاضرات والدروس ووصل الليل بالنهار، بانتظار مستقبلٍ مشرقٍ كان قبل الحرب يجعل من الصيدلاني ثريّاً لا واحداً من أولئك الذين انزلقوا نحو الحاجة.