سرى اعتقاد واسع في أوساط سياسية عدّة أنّ المكاسب العسكرية التي حقّقتها إسرائيل منذ 17 أيلول الماضي في لبنان، تاريخ انفجار بنية الاتصالات لدى "حزب الله"، ولاحقاً في اغتيالها مجموعة كبيرة من قادته وصولاً إلى اغتيال أمينه العام السيد حسن نصرالله، وربما أيضاً خليفته المتوقّع، يمكن أن يوفّر لها الفرصة للاكتفاء بهذا الفوز، وتالياً إتاحة المجال للجهود الدبلوماسية الرامية التي قد تؤدّي إلى حلّ سياسيّ. الاستمرار في القصف اليوميّ للضاحية الجنوبية ومواقع الحزب في مناطق أخرى، بالإضافة إلى عمليات متقطعة في الجنوب سيتيح على الأرجح تظهير الحزب "صموده" على الأقلّ وعدم انتهائه، علماً أنّه يظهر مقدرة على استمرار قصف إسرائيل بالصواريخ ، ولو أنّ الخبراء يقدّمون تقويماً مختلفاً عمّا يتمّ الإعلان عنه إعلاميّاً. إذ من غير المرجّح لا سيّما في ظلّ الدعم المعنويّ، والبعض يقول الماديّ أيضاً من إيران التراجع أو إظهار ذلك، ولا في وارد إيران إعلان الهزيمة أو التراجع بل انّها صلّبت مواقفها الإعلامية أكثر في وجه إسرائيل، انطلاقاً من خشية متعاظمة أن ينعكس ذلك استضعافاً للحزب وقوّته وموقعه في المعادلة المحلية وحتّى الإقليمية فيما هو يصرّ كما بيئته على الاحتفاظ بها. وما يجري على وسائل التواصل الاجتماعي من تخوين لكلّ الآخرين أصحاب الرأي المختلف يندرج بقوة في هذا الإطار، أي الخشية من توظيف ضعف الحزب في السعي الى إرساء واقع سياسيّ جديد في البلد والبناء عليه للمرحلة المقبلة.
نقل عن الخارجية الأميركية قولها في الساعات الماضية انّ "الضغط العسكري قد يساعد أحياناً على تحقيق الديبلوماسية ".
إلّا أنّ ديبلوماسيين حذروا إسرائيل اخيراً من مغبّة التوغل براً في جنوب لبنان لأنّ المكاسب التي حققتها إسرائيل قد تذوي في مقابل الخسائر التي قد تتكبّدها في أرض معادية وفي ظلّ استماتة الحزب لاستعادة هيبته، في وقت قد يؤدّي ذلك الى أمرين آخرين مهمّين: أحدهما ضمان حصول الحزب على دعم لبنان من كلّ الأطياف اللبنانية في مواجهة محاولة احتلال إسرائيل الجنوب مجدداً، وثانيهما أنّ إسرائيل قد تفتح باباً خلافيّاً جديداً مع الدول العربية على غير استهدافها الحزب وحده، فيما تؤكّد أنها تستمرّ في تدمير بنيته العسكرية. واللافت في هذا الإطار وما يمكن أن تستند إليه إسرائيل هو غياب أيّ ردود فعل دولية مماثلة لتلك التي رافقت الحرب في غزة نتيجة اقتناع خارجي بأنّ لبنان الدولة لا قيامة له محتملة إذا بقي الحزب دولة من ضمن الدولة، والاقتناع بضرورة تقليم سيطرة إيران ونفوذها في لبنان لإتاحة بقاء لبنان وإنهائه ما دامت الفرصة قد أتاحتها إسرائيل بإضعاف الحزب على نحو كبير .
إلّا أنّ السؤال الأساسيّ راهناً يتّصل بماهية اللحظة العسكرية أو ظروفها التي يمكن أن تُطلق الجهود الديبلوماسية مجدّداً، وهل يمكن ذلك بمعزل عن وقف النار في غزة بعد عام كامل من الحرب فيها؟ وهل المجال متاح في هذا السياق لاستئناف الموفد الأميركي آموس هوكشتاين وساطته بما في ذلك إذا كان التفاهم الذي توصّل إليه مع رئيس مجلس النواب نبيه بري على قاعدة البدء بتنفيذه فور التوصّل إلى وقف للنار في غزة لا يزال ساري المفعول في ظلّ متغيّرات كثيرة طرأت بما أضعف كثيراً الأوراق التي كان يملكها الحزب. يحاول لبنان الرسمي جاهداً المطالبة بوقف النار ولكنّ الأمر لا يعود إليه وفق ما يدرك الخارج العربي والدولي ذلك، واللبنانيّون أيضاً في ظلّ اعتقاد أنّ إيران وإسرائيل اللتين تتواجهان في لبنان فإنّما أيضاً على قاعدة الرهان من كليهما على الانتخابات الرئاسية الأميركية. ما قد يجعل صعباً إن لم يكن مستحيلاً بدء جهود ديبلوماسية جدية يعوّل فيها في شكل أساسيّ على الولايات المتّحدة فيما قد يغرق لبنان في سيناريوات مختلفة تبعاً لمجريات الحرب وتطوّراتها.
وعلى الصعيد الداخلي، لا يزال لبنان يعاني من الشلل السياسي ويواجه عدم القدرة على إنهاء الحرب في ظلّ اقتناع راسخ لدى أوساط ديبلوماسية وسياسية كذلك أن يكون "حزب الله" في وارد أن يطلب وقف النار لما يعنيه ذلك من هزيمة لن يقرّ بها أيّاً تكن الضربات الكبيرة والقاسية التي تلقاها. وردود الفعل من بيئته والبعض يقول حتّى ممّا ينقل عن مسؤولين شيعة من ألّا تأثير لما يجري على التوازنات السياسية يندرج في إطار المخاوف من استضعاف الطائفة التي كانت مستقوية بسلاح الحزب في التعاطي مع الداخل اللبنانيّ، وتتصرف معه بفوقية واستعلاء. يخشى في ضوء ذلك استمرار التعنّت في انتخاب رئيس للجمهورية خشية أن يعكس ذلك التغيير في موازين القوى أو تفسيره على أنّه كذلك ،علماً أنّ موازين القوى الإقليمية هي التي ستؤثر في هذا الإطار . فإزاء الحاجة الماسّة للبنان وللطائفة الشيعية بعد توقّف الحرب إلى الدول العربية والخليجية في شكل خاص، وفق ما أظهر دفق المساعدات الإنسانية منها حتّى الان، فإنّ الأمر قد يحدث مراجعة حتمية في المقاربة الرئاسية التي اعتمدت حتّى الان، لأنّ المطلوب رئيس للجمهورية كما رئيس للحكومة يستطيعان توحيد البلد ويمتلكان القدرة على ضمان ثقة الخارج العربي والخليجي كما ثقة الخارج الدولي. وهذه اللحظة لم تحن بعد .