كانّ - هوفيك حبشيان
روبن أوستلوند عاد إلى مسابقة مهرجان كانّ السينمائي (17 - 28 أيار) بعمل جديد، بعد خمس سنوات من نيله "السعفة" عن "المربّع" (أو "الميدان"). فبعد المربّع لا بد من مثلّث، وليس أي مثلّث بل "مثلّث الحزن"، وتحلو لي ترجمته أيضاً بالتعاسة، لأن العالم الذي يصوّره المخرج السويدي محوط بالتعاسة ولو أرادت الشخصيات اثبات عكس ذلك بالكثير من التخبط الذي يتحول إلى سلسلة مهازل.
وقاحة، لؤم، جرأة، سخرية. هذه بعض صفات الأفلام التي قدّمها أوستلوند في السنوات الماضية، من "سائح" إلى "الميدان". منذ اطلالته، بدا ابناً شرعياً للسينما الاسكندينافية التي تلسع ولا ترحم. مع ذلك، هو أقرب إلى لويس بونويل وميشائيل هانكه منه إلى مواطنه إنغمار برغمان. يمكن القول انه يحمل مزيجاً من هوية سويدية على مستوى الحرية التي يسبح فيها، وفوضوية تذكّرنا بماركو فيريري.
الدخول إلى فيلم لأوستلوند لا يتم بسوى وعود. الوعد الأكبر هو اننا سنتسلى كالمجانين. ولو لم يعجبنا الفيلم، أو كانت لنا في شأنه تحفظات، نتوقع على الأقل اننا سنتلقى في وجوهنا نسمة هواء منعش. أوستلوند يعرف كيف يخرج المُشاهد من رتابته، وهذا ما حدث تماماً عندما انتهينا من مشاهدة أفلام عدة في كانّ، ثم دخلنا إلى "مثلّث الحزن". هذا لا يعني ان الأفلام الأخرى ليست على المستوى المطلوب، بالعكس، لكن أوستلوند يجيد الدفع بالابتكار والاختلاف إلى حدّهما الأبعد.
يبدأ "مثلّث الحزن" بزوجين أو حبيبين (الفيلم لا يحدد العلاقة) يعملان في عرض الأزياء. كلّ شيء بينهما يشي ان العلاقة على شفير الانهيار أو على حافة الانفجار. فالرجل يطالبها بأن تتحمّل بعضاً من نفقات خروجهما معاً. في هذا الفصل الأول الذي يحمل اسم هذين الشخصين، يباشر أوستلوند رسم بورتريه شديد التوتر لثنائي عصري، مع قدر من التوتر والنيات المبيتة العزيزة على قلبه منذ "سائح". فجأةً، من دون أي علاقة بين الفصل السابق والفصل المقبل، نجد أنفسنا على متن يخت لكبار الأثرياء الروس وغيرهم من أصحاب الثروات التي لا تحرقها النيران، لكن قد تكون قابلة للغرق! سنتعرّف إليهم جميعاً، واحداً تلو الآخر. من اطلع سابقاً على سينما أوستلوند، لا بد ان يتكهّن ماذا يعني ان يبحر على متن سفينة مع مجموعة من رؤوس الأموال. بلى، رؤوس أموال، فهو لا يرى فيهم سوى مادة لصراع طبقي. فما بالك اذا كان قبطان السفينة نفسه (وودي هارلسون) ماركسيا…
لأكثر من نصف الفيلم، سنكون أسرى هذه السفينة التي ستبدو كأن لويس بونويل خطفها ليصوّر فيها "السحر الخفي للبورجوازية"، أو كأنه نسخة بحرية لـ"الوليمة الكبرى" لماركو فيريري، من دون ان يبلغ نزعات فوضوية تخريبية مشابهة. هذا كله يتحوّل تدريجاً إلى استعارة لعالمنا المعاصر، ويبحر في مكان ما بين تايتانيك وسفينة نوح. وبما ان الفيلم ساعتان ونصف الساعة ويحتاج بالتالي إلى مادة، فمصيبة تحدث (لن نكشفها) يضطر المسافرون على اثرها للجوء إلى الجزيرة. هناك يضعف الفيلم ويتعثّر ويفقد شيئاً من بريقه، نصّاً وإخراجاً وتمثيلاً وخطاباً، خصوصاً ان لعبة أوستلوند تصبح مكشوفة: تبديل الأدوار. فمن كان خادماً على متن اليخت يصبح سيداً والسيد يصبح خادماً عندما تتساوى الحاجات البيولوجية بين البشر، والجميع يصبح عبارة عن أفواه.
***
المواجهة بين الفرد ومحيطه لا يكاد أحد في السينما المعاصرة يتحدّث عنها كما يفعل ذلك جيمس غراي، بالرومنطيقية اليائسة التي ترينا كلّ شيء هباءً بهباء. مع ذلك هناك دائماً مكان ينبع منه الأمل. جديده "يوم هرمغدون" (مسابقة) يعيدنا إلى طفولته المشاغبة في نيويورك خلال عهد رونالد ريغن، أي في مطلع الثمانينات، في لحظة سياسية مصيرية وصعبة، مستعيراً عبارة تخرج من فم الرئيس الراحل، للاشارة إلى صراع الخير والشر، لعنونة فيلمه. كما هي الحال في أعماله السابقة، يروي فصلاً من فصول الاختلاف، من خلال الطفولة التي تشق طريقها إلى عالم الكبار فتفقد براءتها كلما عاشت وشاهدت واتجهت صوب الخيارات.
كما في معظم أفلامه، اليهودية حاضرة بقوة، هنا في الأحاديث على الطاولة عندما تجتمع العائلة والأقارب لعشاء صاخب، وأيضاً في الهوية التي يحملها مَن ينتمي إلى أقلية دينية تحدده إلى الأبد. في عائلة تعاني من أزمة بل أزمات، ينشأ الصبي بول غراف (الأنا الأخرى لجيمس غراي - مايكل بانكس ريبيتا) وفي داخله ميلٌ إلى الفن، الشيء الذي سيضعه في مواجهة مع أهله، لا سيما مع الوالد القاسي، في اعادة تدوير ناجحة للتيمة الأساسية التي يدور عليها معظم أفلام غراي: العلاقة الاشكالية بالأب. واذا كان النزوع إلى الفن الذي يكتشفه وهو يزور متحف غوغنهايم يولّد نزاعاً بينه وبين الأهل، خصوصاً انه تلميذ غير مجتهد، فلا يمكننا الا ان نتخيّل بقية الحكاية بمفردنا، كونه لا يقولها لنا: حكاية إنقاذ إنسان على يد الفنّ.
عشق غراي للموجة الفرنسية الجديدة ليس سراً، لذلك غير مستغرب ان يشبّه بعض النقّاد فيلمه هذا بـ"الحياة الماجنة" لتروفو. هناك الدرب نفسه المحفوف بالتحديات الذي سيحمل إلى السينما صبيا مصنوعا من المعاناة ومعجونا بالقسوة. آه، نسينا ان نذكر أيضاً ان ضوء مدير التصوير داريوس خونجي "فرجة" ترفع من شأن الفيلم.
***
في دورة منعت الادارة الوفود الرسمية الروسية من المشاركة في المهرجان دعماً لأوكرانيا، تربّع الفيلم الروسي "زوجة تشايكوفسكي" للمخرج كيريل سيريبرينيكوف، أجمل الأفلام وأروعها. سيريبرينيكيوف المنشق عن نظام بوتين سبق ان عرض في كانّ فيلمين نالا ما نالا من اهتمام، لكن المسألة مختلفة هذه المرة. فالرجل بعد فترة من الاقامة الجبرية، غادر روسيا للعيش في برلين. معاينة فيلم روسي قبل الغزو ليست كما قبله، على الأقل في نظر الغرب الذي بدا يرى حتى في ضم فيلم مخرج روسي معارض عانى من ظلم النظام إلى المسابقة قرارا غير مقبول، كما جاء في تصريح للمخرجة البولندية الكبيرة أنييشكا هولاند. في أي حال، جاءنا سيريبرينيكوف بعمل جبّار. ساعتان ونصف الساعة من سينما خالصة، مشبّعة بجماليات لا يقدر عليها الا الروس أو مَن يحمل روحا روسية. نحن أمام عمل أصيل في أدق تفاصيله. الحكاية عن زوجة تشايكوفسي (يلعب دوره أودين بيرون). نعم كان للموسيقار الروسي زوجة عاش معها لفترة، وهي تُدعى أنتونينا ميليوكوفا (أيلونا ميخايلوفا) بالرغم من انه كان مثلياً. هذا الزواج كان للتغطية على ميوله الجنسية في مجتمع أرثوذكسي لا يرحم. فنحن في روسيا أواخر القرن التاسع عشر. المجتمع لا يزال يتدخّل في حياة البشر، أما المرأة فهي لم تنل بعد كامل حقوقها، ولا تستطيع ان تطلّق بسهولة اذا ارادت. اذا كان تشايكوفسكي لا يتحمّل حتى ان يقبّل زوجته، فأنتونينا في المقابل عشقته حتى الجنون. حب نشأ بسرعة، منذ أول اللقاءات بينهما، وهي تلميذة موسيقى.
الفيلم لا يغرق في السنتيمانتالية ولا في ادانة ظروف عيش المرأة كما لو كان مموّلاً من جمعية لتمكين المرأة، بل هو عن الشغف والحبّ ولحظة بلوغ الجنون وتحوّل الحب إلى تعلّق والاهتمام إلى هوس. يرينا الفيلم كيف ينزلق هذا الزواج إلى كارثة تدمّر حياة أنتونينا، ومع ذلك تغدو مصدر إلهام لتشايكوفسكي. معالجة الفيلم البصرية شديدة الرومنطيقية وشديدة القسوة في آن واحد. يعتمد المخرج اسلوباً فيه الكثير من التفخيم ومشبّع بالموسيقى (دون استخدام أي موسيقى لتشايكوفسكي). نجد أنفسنا في قلب الاضطراب العاطفي لتنتج منه لقطات تحلّق بنا إلى السماء السابعة، وهي لقطات ستبقى حتماً في ذاكرتنا لفترة، تصوّر عذابات أنتونينا ومعاناتها لحظة انفصالها عن الواقع والدخول في عالم مواز.