لوسيان شهوان
بينما كانت بريطانيا تنسحب من فلسطين منهيةً انتدابها عليها عام 1948 كانت اسرائيل تُعلن دولتها، الأمر الذي أدّى الى اندلاع الحرب الأولى بين العرب وإسرائيل، الأردن ومصر والعراق وسوريا والسعوديًة ولبنان في مواجهة الميليشيات الاسرائيلية التي تشكّلت من"الأرغون" و"الهاغانا" و"البلماخ" وغيرها، والتي انتهت بهزيمة الدول العربية. تلا هذه الحرب توقيع اتفاقيات بين الدول العربية واسرائيل ومنها اتفاقية الهدنة بين لبنان وإسرائيل في آذار (مارس) عام 1949.
رافق هذه الهدنة التي أمّنت إطاراً قانونياً لمراقبة النزاع بين الطرفين حضور للجيش اللبناني، الجهة الشرعيّة الضامنة لأمن الحدود ولحماية الهدنة. وعرفت الحدود آنذاك نوعاً من الهدوء الذي خرقته بعض المناوشات حتى منتصف ستينات القرن الماضي، مرحلة بداية التمركز الفلسطيني جنوباً وإطلاقه أعمالاً حربيّة ضد إسرائيل من جنوب لبنان. لحوالى عشرين عاماً، كان الجيش اللبناني هو صاحب المهمات الدفاعيّة في الجنوب، وكانت الرئاسة الأولى صاحبة القرار السياسي. وقد أظهرت هذه المعادلة (السلطة السياسية + الجيش اللبناني)، مقارنة باليوم، فعاليّة أكبر في حماية الجنوب والجنوبيين، اذ أن الخسائر، وتحديداً البشريّة، التي تكبّدها لبنان آنذاك كانت أقلّ بكثير ولا تُقارن بالخسائر أيام انتشار الفصائل الفلسطينية ومن بعدها "حزب الله" وصولاً الى اليوم، بعد غياب الجيش اللبناني كقوّة دفاعيّة وحيدة في الجنوب وبصورة تدريجيّة منذ عام 1967 حتى يومنا هذا.
وعلى رغم صدور القرار الدولي 1701 عام 2006 الذي يتضمّن في بنوده نشر الجيش اللبناني على الحدود الجنوبية بعديد يصل الى 15000 جنديّ، لم يتحقق الأمر. وها هو الجيش اللبناني، وإن انتشر جنوباً بعد عام 2006، فقد حضر بقوّة عسكريّة لا تتعدى الـ 2000 جندي. من أسباب هذا الحضور الخجول للجيش جنوباً غياب القرار السياسي الذي من واجب الحكومة اللبنانية تأمينه وفرض حضور الجيش اللبناني على حساب حضور القوى غير الشرعية والتي من المُفترض أن تنسحب من المناطق الحدوديّة تطبيقاً للقرار نفسه. وأمام هول المعارك العنيفة والدمار والنزوح المؤلم، تعود الى الأذهان تجارب الماضي التي من المفترض أن تعلّم كل المعنيين، بدءاً بالحكومة اللبنانية التي لا تجرؤ على لعب دورها وممارسة صلاحيتها كما يجب، وصولا الى "حزب الله" الذي يصرّ حتى يومنا هذا على نظرته الى الأمور التي أظهرت أنها مدمّرة له ولأتباعه قبل الآخرين.
إعادة "حزب الله" النظر بكل شيء تتطلّب جرأة المَضي نحو المستقبل، وتطوّر موقف "الحزب" لملاقاة المواقف الاخرى الداعية الى وقف إطلاق النار وانتخاب رئيس للجمهوريّة يلتزم القرارات الدولية التي تحمي لبنان، أمرٌ قد يُبنى عليه لحماية جميع اللبنانيين من دون استثناء. من هنا فإن مسؤولية رئيس المجلس النيابي نبيه بري الانقاذية كبيرة جداً، والمطلوب منه موقف تاريخيّ خارج الإملاءات الإيرانية التي تطلب استكمال القتال ولو كلّف الأمر المزيد من الخسائر على كل المستويات. الرئيس نبيه بري أمام مفترق طرق مفصليّ، والمخارج الداخلية لوقف إطلاق النار متوافرة، فما عليه إلا الاصرار والمبادرة بإتجاه تأمين كل ما يلزم لإنتاج رئيس جديد للبنان يتسلّح بالقرارات الدولية، فينطلق الى دوائر القرار الدولية لتخفيف الضغط والألم عن اللبنانيين. أما الطُرق الأخرى، كالإعتماد على الإدارة الإيرانية للمرحلة فستكون مكلفة بحق مكوّن لبناني أساسي، أي الطائفة الشيعية وبحقّ كل اللبنانيين الذين سيصطدمون مع الوقت بتداعيات جديدة تنتظرهم على مستوى الأمن الداخلي والاجتماعي. كما أن التحدّيات الاقتصادية وازماتها التي لم ننسها بعد، ستعود حكماً مع الخسائر الهائلة التي تعرّض لها لبنان.
في اليوم التالي
في المشهد اللبناني اليوم، لا تماسك فعليّا لأي منظمة أو مؤسسة غير ما هو متوافر في الجيش اللبناني الذي يسعى الى ضبط الأمن بين اللبنانيين ومراقبة تداعيات النزوح وبما توافر. ولكن هذا الجيش يحتاج إلى جانب الدعم الإغاثي الذي يتلقاه لبنان من الدول العربية مشكورة، إلى خطة دعم خاصة عربية-غربية تأتي مع اليوم التالي للحرب. دعم مواكب لمضامين القرارات الدولية التي يحتاج لبنان إليها للخروج من أزمته، من المستلزمات الحدوديّة المواكبة لعمليّة ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا، واستكمال تفعيل أبراج المراقبة وتطويرها بهدف ضبط الأمن الحدوديّ منعاً لأي تجاوزات جديدة، وانتشار الجيش جنوباً وما قد يحتاجه هذا الجيش من استعدادات على مستوى عديده ولوجستيات أخرى يحتاجها لحضور فعليّ ومطمئن للجميع في الجنوب، وصولاً الى الأمر الأبرز الذي يحتاجه الجيش اللبناني هو القرار السياسي الواضح الذي يحصل عليه من سلطة سياسية على رأسها رئيس للجمهوريّة مؤمن بانقاذ لبنان بعيداً عن سياسات المحاور التي اثبتت أنها ليست من مصلحة أحد في لبنان.