تُظلم إدارة جو بايدن إذ يقال إن اليد الطولى لاتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل كانت للرئيس المنتخب دونالد ترامب وإدارته التي لم يمر شهر بعد على نهاية تشكيل ملامحها.
دونالد ترامب هزم الرئيس الحالي ثلاث مرات. المرة الأولى كانت في المناظرة الكارثية التي أحرج فيها بايدن نفسه، وأخجل حزبه، وأحبط آخر المؤمنين بأنه سيكون المقاتل الديموقراطي الأوفر حظاً للفوز على ترامب. الهزيمة الثانية كانت بانسحابه بعد صراع مرير مع كبار حزبه. والهزيمة الثالثة والقاضية طبعاً، كانت بفوز ترامب الساحق عملياً على مرشحة بايدن ونائبته كامالا هاريس.
هذه الهزائم المتتالية كانت تجري على خط موازِ مع أكبر حروب الشرق الأوسط منذ أكثر من خمسين عاماً، واحدة مستمرة منذ العام الفائت في غزة، والثانية تدحرجت إلى أن باتت هائلة في الثلث الأخير من أيلول (سبتمبر)، في لبنان.
لم يهدأ آموس هوكشتاين طوال أشهر، ذهاباً وإياباً بين بيروت وواشنطن وتل أبيب. لكن اللاعبين الأساسيين، "حزب الله" وإسرائيل، كانا طوال الأشهر الفاصلة بين تشرين الأول (أكتوبر) وأيلول الفائتين يلعبان في مباراة مضبوطة السقف أميركياً، إلى أن فجرت إسرائيل أولى مفاجآتها المدوية، يومي "البايجر" واللاسلكي تباعاً، ثم أفلتت من عقالها.
الضربات المتتالية، شبه القاصمة لظهر "حزب الله"، مرّت برداً وسلاماً على إدارة بايدن. لم يخرج حتى تعبير عن قلق من البيت الأبيض. قادة "حزب الله" الذين اغتالتهم إسرائيل، فرادى وجماعات، هم بمعظمهم مطلوبون عند أميركا منذ أكثر من أربعين سنة. وما دامت إسرائيل "تحيّد ما استطاعت" المدنيين اللبنانيين في غاراتها التي لم تنقطع ليل نهار، فلا بأس، فهي تقوم، برأي البيت الأبيض، ليس بواجبها، بل بحقها في الدفاع عن نفسها وفي محاولة إعادة مواطنيها النازحين من الشمال إلى بيوتهم.
التدمير الممنهج في لبنان، والتهجير، واقتلاع قرى من جذورها، كل هذه تفاصيل لن تقف عندها الإدارة الديموقراطية المشغولة حتى النخاع، خلال شهري أيلول وتشرين الأول، بالنفخ في صورة المرشحة كامالا هاريس، آخر أمل للحزب في إيقاف موجة ترامب العائدة أقوى من أي وقت مضى. وما دام المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي ينشر صور الأبنية قبل تدميرها بدقائق، فإسرائيل ليست على خطأ، ترى الإدارة الديموقراطية!
كما في غزة، كذلك في لبنان، تركت أميركا الحزب الديموقراطي لإسرائيل حرية التصرف في البلدين. من جهة هناك الالتزام العميق للرئيس الأميركي "الصهيوني"، بحسب وصفه نفسه، بأمن إسرائيل، وما يستتبعه هذا الأمن من تفوق عسكري وغطاء أممي ودعم سياسي، ومن جهة أخرى هناك قوى الضغط الأميركية الداعمة لإسرائيل بنفوذها المالي والسياسي العابر للأحزاب، والذي لا تقارعه إلا قلة قليلة من الديموقراطيين التقدميين أمثال بيرني ساندرز، وهؤلاء أصواتهم عالية لكنها ليست فعالة.
إدارة جو بايدن أطلقت يد حكومة الحرب الإسرائيلية. غضت النظر عن كل تجاوزات نتنياهو للقوانين الدولية في العدوان على لبنان، وتطوع نجم الحزب وأيقونته باراك أوباما في تهديد الناخبين العرب والمسلمين بفزاعة ترامب، مكرراً حصر خيار العربي الأميركي بين السيئ والأسوأ. لم تترك الإدارة الحالية لترامب ما يفعله بشأن الموضوع اللبناني بالتحديد، إلا توقيعه رسالة لطيفة يتعهد فيها للبنان بإحلال السلام فيه، وزيارته مطعماً لبنانياً في ميشيغن لجذب أي صوت محتمل إلى صفه.
الانتخابات الأميركية نفسها لم توقف الحرب، كذلك فوز ترامب الساحق، ولم يكن لكوب القهوة الذي احتساه هوكشتاين في فردان ودفع ثمنه لبنانيون طيبون أي أثر في التوصل إلى وقف إطلاق النار. الأمين العام الجديد لـ"حزب الله" نعيم قاسم، قال من البداية إن القرار عند إسرائيل. الولايات المتحدة كانت تعلم ذلك بدورها. مايك والتز، الذي عينه ترامب مستشاراً للأمن القومي، حاول أن يلمح إلى أن فوز ترامب هو السبب في جر الأطراف إلى الطاولة والاتفاق. جايك سوليفان، سلفه الديموقراطي الذي يوضب أغراضه لمغادرة منصبه، قال لوكالة "أسوشييتد برس" ما معناه "يمكنك أن تعلم أنك قمت بعمل جيد حين يحاول الآخرون نسبه إلى أنفسهم"، قصد بذلك زعم والتز. لم ينفِ سوليفان أنه أبقى والتز على اطلاع على تفاصيل الاتفاق، بناء على قرار إدارة بايدن التعاون مع الإدارة المقبلة وتسهيل أمورها، لكنه نفى أن يكون لفريق ترامب، أو ترامب نفسه، أي دور.
هل كان للأميركيين دور كبير في فرض وقف إطلاق النار على إسرائيل؟ يكتب ماكس بوت في "واشنطن بوست" أن نتنياهو "استوعب محدودية قدرات جيشه في لبنان، وأنه يمكن لإسرائيل أن تنزل خسائر قاسية بالحزب لكنها لن تقدر على محوه". مؤسسة "إسرائيل لدراسات الأمن القومي" قالت إن الحرب في لبنان أودت بحياة نحو 2450 مقاتلاً من الحزب من أصل أربعين إلى خمسين ألف مقاتل. ورغم العنف الإسرائيلي غير المسبوق على لبنان، استمرت المواجهات وإطلاق الصواريخ منه حتى اليوم الأخير.
بنيامين نتنياهو هو الذي، بناء على حساباته العديدة، قرر أن الوقت قد حان لوقف إطلاق النار، ليس كرمى لجو بايدن، ولا لدونالد ترامب، ولا للسيدة التي دفعت ثمن كوب القهوة لهوكشتاين، وأملت في أن ينشّط الكافيين الدم في عروقه فيسرع في إحلال السلام على البلد المنهك.