من المستبعد أن تكون الصدفة وحدها قد دفعت "هيئة تحرير الشام" والفصائل التي تقودها ضمن غرفة عمليات "الفتح المبين"، إلى إطلاق معركة "ردع العدوان" ضدّ الجيش السوري في محيط حلب، بالتزامن مع سريان وقف إطلاق النار في لبنان، فجر الأربعاء. إذ مما لا شك فيه أن تطورات الجبهة اللبنانية أسفرت عن متغيّرات كثيرة في ما يتعلق بموازين القوى وطبيعة المعادلات الحاكمة للإقليم.
ويبدو أن قيادة "هيئة تحرير الشام" أرادت من خلال إطلاق معركتها الجديدة، بعد سنوات من التهدئة استمرت منذ عام 2020، أن تستكشف طبيعة المتغيرات الجارية وتختبر موازين القوى وتأثيرها على موقع إيران و"حزب الله" في سوريا، لعلها بذلك تجد ثغرة تنفذ منها للتخلص من حالة الاستعصاء التي شعرت بها خلال العامين الماضيين، على وقع الحديث عن إمكان التطبيع بين سوريا وتركيا، الأمر الذي كان يشكّل بالنسبة إليها خطراً وجودياً محتماً.
وبإطلاق هذه المعركة تكون غرفة عمليات "الفتح المبين" بقيادة أبو محمد الجولاني زعيم "هيئة تحرير الشام"، قد وضعت اتفاق خفض التصعيد الذي تمخضت عنه اجتماعات أستانا، ووضعت كذلك اتفاق سوتشي بين الرئيسين الروسي والتركي في 5 آذار (مارس) 2020 القاضي بوقف العمليات العسكرية بين الجيش السوري وخصومه، على المحك، مهدّدة بإنهائه وإدخال مشهد الشمال السوري إلى مرحلة جديدة كلياً.
ونقلت صحيفة "الوطن" السورية الموالية للنظام عن مصدر ميداني قوله، إن اتفاق خفض التصعيد قد انتهى وعادت المعارك إلى أرياف حلب وإدلب.
ويعتبر إطلاق معركة "ردّ العدوان" بمثابة اختبار جدّي لطبيعة التوجّهات التركية بعد انحسار موجة التطبيع مع دمشق بسبب خلافات الطرفين على شرط انسحاب القوات التركية. كما من شأنه أن يحمّل أنقرة مسؤولية التزام اتفاقي أستانا وسوتشي أمام كل من موسكو وطهران ودمشق، باعتبارها الطرف الضامن للفصائل المسلحة. ولم يصدر عن أنقرة أي موقف بخصوص المعركة، ولكن كانت قد سرّبت الشهر الماضي معلومات تؤكّد أن تركيا رفضت اقتراح إطلاق معركة للسيطرة على مدينة حلب بالتزامن مع بدء القتال البري في جنوب لبنان.
ومن غير الواضح ما إذا كانت المعركة ستخدم الأجندة التركية أم تقف في وجهها، حيث يبقى هذا الأمر مرتبطاً بموقف روسيا التي سبق لها في موقف مفاجئ أن وصفت القوات التركية في سوريا بأنها تقوم بممارسات احتلالية.
ودفعت تركيا بتعزيزات عسكرية مكثفة إلى منطقة "درع الفرات"، الخاضعة لسيطرة قواتها وفصائل "الجيش الوطني السوري" الموالي لها في حلب، إلى جانب نقاطها في إدلب، بالتزامن مع بدء "هيئة تحرير الشام" هجومها على مواقع الجيش السوري في حلب.
ودخل رتل عسكري تابع للقوات التركية من معبر السلامة الحدودي في شمال حلب إلى النقاط التركية المنتشرة في منطقة "درع الفرات"، الأربعاء، ضمّ شاحنات محمّلة بأسلحة ثقيلة ودبابات وآليات، إلى النقطة التركية على أطراف بلدة مريمين شمال حلب.
ورغم أن إعلان إطلاق المعركة حدّد أهدافاً تقتصر على "الردع" و"منع" الجيش السوري والطائرات الروسية من مواصلة قصف المناطق الخاضعة لسيطرة "هيئة تحرير الشام" في إدلب ومحيطها، وكذلك "إجهاض" مساعي الجيش للمبادرة لفتح معركة، إلّا أن من الصعب التكهن بنتائج المعركة ومسارات تطورها، لا سيما في ظل تسارع النتائج المترتبة عليها، والتي أسفرت عن سقوط عشرات القرى والبلدات بيد المسلحين.
وما يعزز ذلك، أن المعركة التي بدأت على محور ريف حلب الغربي، حيث سيطرت الفصائل على جيب واسع، جعلها تقف على بُعد 10 كيلومترات من مدينة حلب، سرعان ما امتدت إلى محور ريف إدلب الشرقي، مستهدفة الوصول إلى مدينة سراقب ذات الأهمية الاستراتيجية.
وبالإضافة إلى سراقب، بات معلوماً أن "هيئة تحرير الشام" تضع نصب عينيها منذ سنوات هدف استعادة السيطرة على مدينتي خان شيخون ومعرة النعمان، بعدما شكّلت خسارة هذه المناطق عام 2019 هزيمة مدوّية لا تزال أصداؤها تتردّد حتى الآن، بخاصة مع اضطرار "الهيئة" لتحمّل عبء ما يقارب مليون شخص نزحوا من هذه المناطق إبان المعارك.
وفي هذا السياق، أكّدت إدارة العمليات العسكرية لـ"الفتح المبين" أن المناطق التي تمّت السيطرة عليها الأربعاء، خلال عملية "ردع العدوان"، تمهّد الطريق لعودة أكثر من 100 ألف مهجر إلى منازلهم وأراضيهم، ما يساهم في تخفيف المعاناة الإنسانية في شمال غربي سوريا، على حدّ قولها.
وأدّى تسارع سقوط البلدات والقرى في محوري القتال إلى بروز احتمالين بالنسبة إلى موقف الجيش السوري من هذا التطور المستجد والخطير. الاحتمال الأول أن الجيش السوري، بالتنسيق مع القوات الروسية، لا يزال غير راغب في الانخراط في معركة كبيرة، ويفضل انتظار الموقف التركي، لأن أنقرة هي المسؤولة عن ضمان التهدئة من جانب الفصائل. والاحتمال الثاني، أن الجيش وحلفاءه لن يتمسكوا بمناطق ريفية ذات تضاريس صعبة، ويفضّلون إعادة تموضع قواتهم لحماية المناطق والمدن الاستراتيجية مثل حلب وسراقب.
وقد حمّلت قيادة الجيش السوري مسؤولية الهجوم إلى جهات إقليمية ودولية. وقالت في أول تعليق لها على المعركة، إنها "انتهاك سافر لاتفاق خفض التصعيد"، معتبرة أنها تمّت "بإيعاز من المشغّلين الإقليميين والدوليين".
وفي حصيلة غير نهائية، تمكنت الفصائل المسلحة من تحقيق تقدّم سيطرت خلاله على 32 قرية ونقطة استراتيجية بمساحة 245 كيلومتراً مربعاً، واقتربت من مدينة حلب بمسافة تراوح بين 5 إلى 10 كيلومترات. ومن أبرز المناطق التي سيطرت عليها: الهوتة، أورم الكبرى، عينجارة والفوج 46.