ترتسم في الخريطة السورية حدود جديدة لمناطق النفوذ، وإن بشكل غير نهائي، بانتظار ما ستسفر عنه التطورات الميدانية والاتصالات الديبلوماسية بين دمشق وعواصم عربية وإقليمية عدة.
وفيما بدا أن اندفاعة "ردع العدوان" فقدت زخمها عند حدود مدينة حماة التي صدت محاولات التسلل إليها سريعاً وبحزم، خلافاً لما حصل في مدينة حلب، استمرت في الاندفاع في ريف حلب الجنوبي حيث سيطرت على بلدة خناصر لتغلق الطريق بين حلب وحماة. وعلى الأرجح سيتوقف زخم الهجوم عند هذه البلدة من هذا المحور لأن التقدم أكثر يعني أن يصطدم المهاجمون مع مناطق من بيئة طائفية مختلفة.
وتمكنت فصائل "الجيش الوطني السوري"، الممول من تركيا، من السيطرة على المدينة الصناعية في منطقة النجار وبلدة السفيرة ذات الأهمية الاستراتيجية، وذلك ضمن معركة أعلنتها تحت شعار "فجر الحرية"، ونجحت كذلك في إغلاق طريق الرقة - حلب، ما يعني أن الكانتون الكردي في منبج وبعض النقاط الأخرى في تل رفعت ومحيطها انفصل عملياً عن مناطق سيطرة "قوات سوريا الديموقراطية" (قسد) في شرق نهر الفرات. لكن القوات الكردية كانت لها حصة من بعض أحياء حلب كالأشرفية وبني زيد والسريان، كما أن قطع الطريق سيخلق صعوبات أمام دمشق في الوصول إلى مناطق سيطرتها في دير الزور والحسكة والرقة.
الجيش السوري الذي على ما يبدو خسر آخر نقاط كان لا يزال يتمركز فيها داخل مدينة حلب حتى صباح الأحد، وهي الأكاديمية العسكرية وكلية المدفعية وكلية التسليح والكلية الفنية الجوية، وسط غياب المعلومات عن مصير كوادر هذه الكليات، تمكن من استعادة زمام الأمور في ريف حماة حيث طرد المهاجمين من بعض المناطق بعد ساعات فقط من سيطرتهم عليها مثل قلعة المضيق ومعردس وحلفايا.
ووفق مصادر سورية مطلعة، فإن العاصمة السورية التي فوجئت بطبيعة الهجوم ومداه، عملت خلال الأيام الماضية على تأمين مظلة عربية وإقليمية شملت الاتصال بالسعودية والإمارات والعراق ومصر وإيران، بالإضافة إلى اجتماع الرئيس السوري بشار الأسد مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في موسكو الجمعة، لإضفاء نوع من الشرعية على أي هجوم معاكس يقوم به الجيش.
وعلمت "النهار" أن دمشق طلبت من روسيا وإيران الضغط على تركيا لدفعها إلى الالتزام بمقررات أستانا وبنود التفاهمات الثنائية، محاولة الإيحاء بأن انسحابها من مدينة حلب لم يكن من قبيل الضعف بل تجنباً لتدمير المدينة من جديد، وأنها تتوقع أن تستعيد المدينة بالحالة التي انسحبت منها.
ومن المرجح أن الجيش السوري لن يحاول استعادة حلب عبر عملية عسكرية، بل سوف يطرق أبواب الديبلوماسية بسبب أهمية المدينة الاستراتيجية وخشية أن يتسبب فتح معركة فيها بانتقال عدوى المواجهات إلى مناطق أخرى، وهو ما بدأت إرهاصاته تظهر في مدينة درعا التي شهدت أكثر من هجوم على حواجز الجيش، وكذلك في ريف اللاذقية حيث اعتقل الجيش خلية نائمة كانت تسعى للقيام بعمليات أمنية للتسبب بالفوضى وبث روح الخوف.
ويشير انطلاق معركتين، واحدة بمسمى "ردع العدوان" والثانية "فجر الحرية"، في توقيت متقارب، إلى وجود حالة من التنافس بين جناحين، الأول تمثله "هيئة تحرير الشام" والثاني يمثله "الجيش الوطني السوري".
وبرغم أن ذلك يزيد من حدة الضغوط العسكرية على الجيش السوري، إلا أنه يؤشر إلى رغبة تركيا في التمايز عن "هيئة تحرير الشام" المصنفة على قوائم الإرهاب الدولية. وأنقرة التي لم تتخذ موقفاً واضحاً من تمدد الهيئة، مكتفية بالقول إنها تراقب الوضع معبرة عن قلقها من تصاعد التوتر ومستنكرة قصف إدلب، لا تتوانى عن التعبير عن دعمها لعملية "فجر الحرية" وأنها تستهدف منع القوات الكردية من استغلال التطورات للتوسع في المنطقة وفرض أمر واقع جديد.
ومما لا شك فيه أن الولايات المتحدة ستجد نفسها مضطرة للتدخل في مجريات الأحداث في منطقة عمليات "فجر الحرية" لأنها تستهدف مناطق حلفائها في قوات "قسد"، كما أن تركيا لا تخفي رغبتها منذ سنوات في السيطرة على تل رفعت ومنبج التي كانت محل تفاهم ثنائي تركي - أميركي أواخر عام 2019. وتتهم أنقرة واشنطن بعدم الإيفاء بتعهداتها بموجب هذا التفاهم الذي يتضمن إخلاء منبج من عناصر وحدات حماية الشعب الكردية.
سقوط حلب لم يعد خلط أوراق المشهد السوري فحسب، بل أعاد الأراضي السورية ساحة صراع إقليمية ودولية. وسوف تحاول كل دولة أن تستغل انفجار المشهد السوري للترويج لأهدافها الخاصة، فواشنطن وإسرائيل تراقبان مدى تأثير الهجوم على نفوذ إيران وانتشارها في سوريا، فيما تراقب تركيا مساعي قوات "قسد" لاستغلال الوضع للتوسع أكثر، بينما تهتم كل من موسكو وطهران بعدم تأثير ما يحصل على بقاء النظام السوري مع محاولة الحفاظ على المنصات السياسية التي أُنشئت لحل القضية السورية مثل مسار أستانا واللجنة الدستورية، ومراقبة انعكاس ذلك على إمكان التطبيع بين دمشق وأنقرة.