عامٌ واحد مثّل فرقاً كبيراً. في 14 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، تساءلت مراسلة مجلة "فورين بوليسي" الأميركية أيمي ماكينون عما إذا كانت إسرائيل قادرة على خوض حرب على جبهتين: الأولى في غزة ضد "حماس"، والثانية في لبنان ضد "حزب الله".
اليوم، يتساءل العالم عما إذا كانت تل أبيب تستطيع خوض حرب على سبع جبهات من ضمنها اليمن والضفة الغربية وسوريا والعراق وإيران. إن الأجوبة على هذا السؤال، حتى بالنسبة إلى المراقبين الغربيين المؤيدين لإسرائيل، ليست إيجابية إلى حد بعيد.
"لا مجال للمقارنة"
في مقابلة مع ماكينون، المراسلة في "فورين بوليسي"، قال الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية تامير هايمان: "نعم، بإمكاننا التعامل مع أكثر من جبهة". وأضاف: "بإمكاننا أن ننهي واحدة والانتقال إلى أخرى؛ لدينا ما يكفي من القدرات التي يمكنها فعل ذلك".
إلى الآن، يبدو أن إسرائيل عمدت إلى استخدام نهج هايمان التدرجي. فقد نقلت مركز ثقل عملياتها العسكرية من غزة إلى لبنان بعدما دمرت الجزء الأكبر من قدرات "حماس" كما تقول. لكن مع التوجه إلى لبنان، تنتقل الحرب إلى مستوى مختلف تماماً. قال هايمان أن لا مقارنة بين "حماس" و"حزب الله". فلدى الأخير قوة نارية أكبر بنحو 10 مرات، وقوة برية أكبر بمرتين وأكثر، إضافة إلى تجهيزات أفضل وصواريخ أكثر دقة.
ويقول غبريال إلفتيريو، نائب مدير "مجلس الجغرافيا الاستراتيجية" ومقره لندن، إن لدى الحزب نحو 50 ألف مقاتل لم ينخرطوا في معارك واسعة النطاق، بالإضافة إلى قوة بشرية إضافية يستطيع استدعاءها من سوريا. وعبّر أيضاً عن اعتقاده، في مقال نشره موقع "بروسلز سيغنال"، بأن تحقيق نهاية عسكرية مُرضية لإسرائيل في جنوب لبنان سيكون أصعب مما هو عليه في غزة.
تتأكد هذه التقديرات في الميدان إلى حد كبير. بعد نحو عشرة أيام على إطلاق التوغل البري، لا يزال الجيش الإسرائيلي يواجه صعوبة كبيرة في التقدم لمسافات ضئيلة من دون تكبد خسائر بشرية كبيرة. فقط في اليوم الأول من التوغل، خسرت إسرائيل ما لا يقل عن 8 جنود وضباط معظمهم من وحدات نخبوية. وهذه حصيلة يومية نادراً ما واجهتها في غزة.
العامل الثاني
كتب إلفتيريو أن عوامل عدة تصعّب على إسرائيل الفوز في حربها المتعددة الجبهات، من بينها العامل الاقتصادي. فالجيش الإسرائيلي يعتمد بشدة على مئات الآلاف من الاحتياط المعبئين بوتيرة عالية ولفترة طويلة، كما أن هناك نحو 70 ألف إسرائيلي نازح من الشمال، مما يعني أن الاقتصاد الإسرائيلي غير معد لهذا النوع من الطوارئ. ينتج عن هذه الحرب قصور في اليد العاملة الصناعية وزيادة في الإعلان عن حالات إفلاس وتكاليف في المجالات السياحية والاستثمارية إلى جانب تكاليف الحرب الأساسية.
حتى قطاع التكنولوجيا المتطور في إسرائيل، والذي يمثل 20 في المئة من الناتج القومي الإسرائيلي والذي تغذيه أيضاً نسبة مماثلة من جنود الاحتياط، قد يبدأ بمواجهة المشاكل في حال طالت الحرب، كما ذكر تقرير حديث لمجلة "إيكونوميست".
لا يعني أي من هذا بالضرورة أن تل أبيب متفاجئة من حجم التكاليف أو أنها ستتراجع قريباً عن أهدافها. لكنه يقترح أن المعارك لا تزال في بداياتها، وأن العام المنصرم قد يمثل مقدمة لما ستواجهه إسرائيل في المرحلة المقبلة. حتى هايمان، الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، قال في مقابلته إن إسرائيل قادرة على خوض ثلاث جبهات، لكنه لم يذهب أبعد من ذلك. للتأكيد، إن جبهات سوريا والعراق واليمن والضفة الغربية، ليست جبهات مرتفعة الوتيرة، ومن المرجح ألا تغير التوازنات على الأرض، لكنها تفرض تكاليف اقتصادية إضافية على الآلة العسكرية الإسرائيلية.
في السياسة
إن المواجهة الإسرائيلية مع إيران نفسها، على بعد أكثر من 1500 كيلومتر، تفرض تحدياتها الخاصة. بعيداً من الأمور اللوجستية، على أهميتها، يوتر هذا الملف العلاقات السياسية بين تل أبيب وواشنطن. تحاول إسرائيل جر الولايات المتحدة إلى ضرب المنشآت النووية ولا تريد الأخيرة ذلك. يبدو بحسب بعض التقارير الأخيرة أن واشنطن نجحت بإقناع تل أبيب بالتراجع عن ضرب هكذا أهداف. بصرف النظر عن صحة هذه التقارير، يبقى أنه مع استمرار المعارك وتوسعها، حتى خارج إيران، من المتوقع أن تزداد التوترات الجانبية بين الطرفين، لا أن تتراجع. كان ذلك واضحاً في أحد تقارير "أكسيوس" الذي نقل عن مسؤولين أميركيين تراجع ثقتهم بالخيارات العسكرية الأخيرة لإسرائيل لأنها لم تبلغهم، أو لم تبلغهم قبل وقت معقول، نواياها بشأن خططها العسكرية. من ضمن تلك الخطط، الاغتيالات البارزة التي قادتها إسرائيل في إيران ولبنان.
يفاقم كلَّ ذلك غيابٌ واضح لمفهوم "الانتصار" لدى إسرائيل. حذرت الباحثة البارزة في مركز بوركل للعلاقات الدولية (جامعة كاليفورنيا) داليا داسا كاي من غياب الرؤية الإسرائيلية ليوم مزدهر وسلمي يعقب الحرب. وكتبت الأسبوع الماضي في مجلة "فورين أفيرز" أن الحرب المتعددة الجبهات قد تنهي مسار الحرب الذي تسلكه إسرائيل عند إعادة احتلال أجزاء من غزة والضفة الغربية وجنوب لبنان مما يجعل تلك اللحظة "أكثر قتامة" من المتصور. من شأن ذلك "أن يهدد أمن إسرائيل البعيد المدى، وأن يقمع التطلعات الفلسطينية إلى الاستقلال والكرامة، وأن يؤدي إلى زعزعة المنطقة بأسرها".
ربما تستطيع إسرائيل خوض حرب متعددة الجبهات. سيأتي ذلك بالتأكيد على حساب عاملي الوقت وتركيز الموارد. وهما من أهم العوامل التي تساعد الجيوش على تحقيق أهدافها في نهاية المطاف.