طفلة فلسطينية تحمل مظلة في مخيم البريج للاجئين وسط قطاع غزة (ا ف ب)
مع مرور عام على "طوفان الأقصى" الذي كان محطة مفصلية أدخلت المنطقة بحرب مدمّرة ودمويّة مسرحها الأساسي غزة ولبنان، وإن توسّعت في أحيان كثيرة نحو عواصم عربية وإقليمية، لا يزال الغزّيون متروكين لمواجهة مصير قاتم، في ظلّ فشل جميع محاولات التوصّل إلى اتفاق سياسي، والإطباق الإسرائيلي على القطاع الفلسطيني الذي عقّد كثيراً عمل المنظمات الدولية وعمليات الإغاثة.
يقول عدنان أبو حسنة، المتحدث باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" في غزة، لـ"النهار"، إن المنظمة تواجه تحديات كبيرة ومختلفة، "ففي أيلول (سبتمبر) الماضي، لم نستطع توزيع مواد غذائية على 1,4 مليون فلسطيني، وباتت العائلات لا تتناول أكثر من وجبة كل يوم أو يومين"، متسائلاً: "كيف يعيشون؟".
ويخشى أبو حسنة انهيار منظومة العمل الإنساني في غزة، التي يدخلها نحو 60 شاحنة من المواد الغذائية لـ2,3 مليون شخص، وهي تُشكّل 10% فقط من احتياجات سكان القطاع. ويوضح: "النقص خطير وغير مسبوق في المواد الغذائية لم نصل إليه حتى عندما كان يسقط كلّ يوم مئات القتلى والجرحى".
تحولت المستشفيات بدورها إلى "عيادات" مع انهيار المنظومة الصحية، فيما هناك مئات آلاف المرضى في غزة حيث تنتشر أمراض مثل الكبد الوبائي والتهاب السحايا والأمراض الجلدية والأمراض الرئوية. يقول أبو حسنة: "لاحظنا أن المناعة الفردية للغزّيين انهارت، وأيّ شيء يمكن أن يؤدي إلى المرض والموت".
آخر دواء... البتر
ويتحدث المسؤول في المنظمة الدولية عن دور كبير لـ"الأونروا" على هذا الصعيد، إذ تمكنت منظومتها الصحية من الصمود إلى حد ما بواسطة "10 عيادات مركزية كبرى و100 عيادة صغيرة متنقلة و1300 عامل في المجال الصحي"، يساعدون يومياً عشرات آلاف المرضى "لكن في بعض الحالات هم عاجزون عن ذلك"، كما هي الحال في إصابات الأرجل، فيُضطرون للذهاب باتجاه "عمليات البتر، فلا إمكانية لعلاج يستمر شهوراً" بغياب الأسرّة والمختصين بهذا المجال، ونقص الأدوية وعدم وجود كهرباء أو الوقود لتشغيل المولّدات في المستشفيات.
وبالنسبة إلى المستشفيات الميدانية التي أقامتها دول عدة، مثل مصر والإمارات والسعودية والأردن، يشير أبو حسنة إلى أنها ساهمت في تخفيف الأعباء، "لكن في وجه الخراب في القطاع الصحي، تبقى جهودها ضئيلة"، مؤكداً أن ما حدث هو "نكبة جديدة توازي ما حدث في عام 1948 وقد تكون أخطر"، فحينذاك كان عدد المهجرين من الداخل الفلسطيني يبلغ نحو 250 ألفاً، فاحتضنهم قطاع غزة، وأُنشئت "الأونروا" لمساعدتهم إلى جانب منظمات أخرى، كما شُيّدت الخيام ومراكز العلاج والمدارس. اليوم كل هذا غير موجود، و"الخيام عبارة عن بعض الأخشاب وقطع البلاستيك التي تجرفها المياه والرياح، أي أن الناس باتت منكوبة".
"تم تدمير الحياة وسحقها" في القطاع الفلسطيني، كما يشرح أبو حسنة، مضيفاً: "لا مياه صالحة للشرب، أنظمة الصرف الصحي والشوارع والبنى التحتية دُمّرت، والاتصالات قُطعت. كل منظومة الحياة انتهت وباتت مكاناً لا يصلح للعيش".
أريد أمناً وطعاماً
وعن أسوأ ما رأى خلال عام من الحرب، يقول: "هناك العديد من القصص والروايات، لكن من المشاهدات التي تأثرت بها كثيراً قصف المدارس". يوضح أبو حسنة: "نحن نبلغ الجانب الإسرائيلي عن إحداثيات مراكز الإيواء في المدارس، ولم يتم يفتح أي منها إلا بعد موافقته، ولجأت الناس إلى هذه المراكز من أجل علم الأمم المتحدة الأزرق حيث تتمتع بالحماية". ويتابع: "شاهدت الكثير من المشاهد المرعبة في مراكز الإيواء"، وكان الناس يتساءلون عن سبب مقتلهم في هذه الأماكن التي يُفترض أنها آمنة.
قصة أخرى يرويها أبو حسنة عن أحد كبار التجار في غزة، عندما جاءه يطلب التسجيل في مركز إيواء، وعندما سأله عن السبب أجاب: "أنا لا أملك أي شيء الآن، ولم أتناول طعاماً منذ 10 ساعات".
يتحدّث أبو حسنة عن سحق الأماكن الأثرية أيضاً، ومنها المساجد والكنائس التي تُعدّ "الأقدم على وجه الأرض، فالتراث المسيحي الكنسي موجود في غزة" ودُمّر. ويعلّق: "تمّ القضاء على المكان بتاريخه وماضيه وحاضره، وللأسف قد يكون في مستقبله إذا لم يتم وقف إطلاق النار وإعادة الأمل للناس مع أطفالها".
عصابات وضغوط نفسية
إلى جانب ذلك، هناك قضية أخرى مهمة جداً وهي غياب النظام والقانون في غزة، ما يتسبب بحالة فوضى خطيرة. فوفقاً لأبو حسنة، "عند إدخال مساعدات من معبر كرم أبو سالم، نُفاجأ بعد مئات الأمتار بعصابات مسلّحة تستولي على الشاحنات، وما يصل للفقراء والمهمّشين والمدمّرين قليل". يضيف: "كانت الشرطة في البداية تحرس الشاحنات، لكن إسرائيل استهدفت عناصرها وقتلت العشرات منهم، حتى أن بعض الأشخاص شكّلوا فرقاً تتقاضى بدل أتعاب لحماية الشاحنات، لكن هذه التجربة لم تنجح".
لا يتحدث الكثيرون عن الضغوط النفسية التي يتعرّض لها سكان غزة، وهناك مئات الآلاف منهم مصابون باضطرابات عقلية ونفسية. يقول أبو حسنة: "أولئك أشخاص عاديون، ليسوا أبطالاً خارقين. هم كما كلّ البشر يتعرّضون لضغوط هائلة". ويضيف: "قد يُعاد تعبيد الشارع بعد عام أو عامين، ويُعاد إعمار البيوت بعد خمس سنوات، لكن أهالي غزة بحاجة إلى عشرات السنوات للعودة إلى طبيعتهم".
التعليم معطّل بالكامل بعدما دُمّر 65% من المدارس، وما تبقى منها يعيش فيها مئات آلاف النازحين.
في النهاية، لا يزال 1,8 مليون فلسطيني محاصرين في مساحة 30 كيلومتراً مربعاً فقط، أي بنسبة 60 ألف شخص في كلّ كيلومتر مربع. يختم أبو حسنة: "أعطني سجناً في العالم يضمّ هذا العدد في هذه المساحة".