محمد حسن بيضون
تعيش جالية تونسية في لبنان منذ عقودٍ طويلة، وهي منخرطة في الحياة اليومية ومندمجة في نسيج المجتمع اللبناني بأزماته السياسية والاقتصادية المتلاحقة. ومع أن معظم أفرادها اعتادوا التعايش مع واقع متقلب، فإنهم باتوا يواجهون تحدياً غير مسبوق مع اندلاع الحرب الإسرائيلية على لبنان، الأمر الذي وضعهم أمام قرارات مصيرية لم يعرفوها من قبل، وأجبر بعضهم على النزوح تاركين وراءهم سنوات من الاستقرار الهشّ بعد أن أصبحوا شهوداً على مشاهد عنف طالت حياتهم اليومية.
ومع تصاعد وتيرة القصف الإسرائيلي، الذي طال العديد من المناطق، وجدت بعض العائلات التونسية نفسها مجبرة على النزوح وسط ظروف إنسانية قاسية. وفي الوقت الذي شتتت فيه الحرب العائلات، ظلت قصص الأمل والمثابرة حاضرة في محاولات النجاة، إلى أن تحركت السلطات التونسية، بالتنسيق مع السفارة في بيروت، لتأمين إجلاء نحو 400 مواطن. وقد تابعت “النهار” من كثب تفاصيل العملية وأوضاعهم بعد العودة.
لحظات الهروب والنجاة
عائشة، واحدة من التونسيين الذين يعيشون في المناطق الجنوبية والضاحية الجنوبية لبيروت، جاءت إلى لبنان بعد زواجها بلبناني، لكنها لم تتوقع أن تتحول حياتها الهادئة إلى معركة من أجل البقاء.
تقول عائشة لـ"النهار": "لم أتوقع أبداً أن أعيش هذا المشهد". منزلها دُمّر بالكامل خلال ثوان، ما أجبرها على الهروب وسط ذعر شديد. هذا الشعور بفقدان الأمان كان مشتركاً لدى معظم التونسيين الذين شهدوا العنف الإسرائيلي بشكل مباشر، ليبدأ بعدها فصل جديد من التحديات بين النزوح والبحث عن ملاذ آمن.
قرار الرحيل… حتمي
بالنسبة إلى محمد، الشاب التونسي الذي يعمل مدرّساً في صيدا، كانت الحرب تجربة صادمة لم يستطع الهروب منها فوراً. وبالرغم من أنه كان يدرك خطورة البقاء، شعر بأن مغادرة أصدقائه اللبنانيين تعتبر تخلياً عنهم في أحلك اللحظات. لكنه بعد مقتل ابن صديقه المقرب في إحدى الغارات أدرك أن البقاء قد يكلّفه حياته. يقول محمد: "العودة كانت قراراً صعباً، لكنني اضطررت إلى اتخاذه. جسدي في تونس، لكن قلبي لا يزال هناك مع أصدقائي”.
معاناة الشباب العالقين
شملت المعاناة، إضافة الى العائلات التونسية، الشباب الذين جاؤوا لأغراض الدراسة أو العمل. نور، الطالبة التونسية في بيروت، وجدت نفسها محاصرة في شقتها وسط دويّ الصواريخ. شعرت بالعجز وهي تشاهد الأحداث تتسارع حولها من دون أن تتمكن من فعل شيء سوى انتظار المجهول. مع مرور الأيام، ازداد الوضع سوءاً، لا سيما بعد مقتل أحد أصدقائها في الجنوب. بقيت محاصرة لأيام قبل أن تتمكن من تأمين اسمها ضمن قوائم الإجلاء.
سباق مع الزمن
وسط الفوضى، كانت السفارة التونسية تتحرك على مدار الساعة لتأمين عملية الإجلاء. وأكد السفير التونسي في بيروت براوي الإمام أن السفارة عاشت حالة طوارئ، إذ كانت تستقبل مئات الاتصالات من تونسيين موزّعين في مختلف المناطق، ما تطلب إدارة دقيقة وحذرة للعملية.
بدأت العملية بجمع بيانات المواطنين عبر استمارة إلكترونية، تلاها تأمين طائرات. الرحلة الأولى كانت عبر طائرة كبيرة تابعة للخطوط الجوية التونسية مباشرة إلى تونس، والثانية إلى عمّان عبر طيران الشرق الأوسط، ومنها إلى تونس عبر الخطوط التونسية.
استقبال رسمي في تونس
لدى وصول التونسيين إلى وطنهم كان ممثلو السلطات في انتظارهم، تنفيذاً لتوجيهات مباشرة من الرئيس قيس سعيد، الذي شدّد على تأمين كل حاجات الجالية فور وصولها. استُقبل العائدون في مطار قرطاج الدولي، وتم تأمين المواصلات إلى أماكن الإقامة الموقتة، مع تقديم مساعدات وفرق طبية ودعم نفسي عبر فرق مختصة.
تحديات جديدة
وبالرغم وصول العائدين إلى وطنهم بسلام، فإن التحديات لم تنتهِ عند هذه النقطة، إذ يجد كثير منهم أنفسهم في وطن لم يعيشوا فيه منذ سنوات، ويجب عليهم التأقلم من جديد. بعضهم فقدوا وظائفهم في لبنان، والبعض الآخر تركوا ممتلكاتهم من دون معرفة ما إذا كانوا سيتمكنون من العودة إليها يوماً ما.
إعادة بناء الحياة تبدو مهمة شاقة، لا سيما أنهم عادوا بحملٍ ثقيل من القلق والخوف على أحبائهم الذين تركوهم وراءهم في خضم النزاع. ومع ذلك، يظل الأمل حاضراً في قصصهم، إذ يسعى كل واحد منهم لكتابة فصل جديد من حياته، متطلعاً إلى مستقبل يحمل الاستقرار بعد سنوات من عدم اليقين.