عادت فرنسا الى طرح معادلة "الامتيازات الاقتصادية والتأشيرات مقابل استعادة المهاجرين" على دول المغرب العربي، مع تصريحات جديدة لوزير الداخلية الفرنسي برونو ريتايو المعروف بمواقفه المتشددة وسعيه إلى تقليص عدد المهاجرين غير الشرعيين وترحيلهم بشكل أكثر فعالية. فكيف تنظر تونس والمغرب والجزائر الى هذه "المقايضة" التي تكشف اتجاهاً فرنسياً متصاعداً نحو سياسات أكثر تشدداً في التعامل مع الهجرة غير الشرعية؟
امتعاض رسمي
خلال اجتماع في لوكسمبورغ الخميس 10 تشرين الأول (أكتوبر) بدا ريتايو أكثر تصميماً من أي وزير داخلية فرنسي سابق في ما يتعلق بملف الهجرة غير الشرعية وترحيل المهاجرين غير النظاميين قائلاً إنه "لا يستبعد أي حل مسبق" بشأن نقلهم خارج الفضاء الأوروبي.
وهذه ليست المرة الأولى التي تلوح فيها فرنسا بورقتي التعاون الاقتصادي والتأشيرات للضغط على دول المنشأ والعبور من أجل التعاون في ملف الهجرة غير الشرعية والقبول باستعادة المهاجرين.
وسبق أن أثارت هذه الخطوة أزمة بين فرنسا ودول المغرب العربي التي تعتبر في مقدمة الدول المصدرة للمهاجرين غير النظاميين عقب قرار الحكومة الفرنسية عام 2021 تشديد شروط منح تأشيرات الدخول لمواطني الجزائر والمغرب وتونس.
وردا على تصريحات الوزير الفرنسي حمّل وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة الدول الأوروبية مسؤولية الصعوبات التي أعلنت أنها تواجهها لإعادة مهاجرين غير قانونيين مغربيين إلى بلادهم. وأعرب عن استعداد بلده لاسترجاعهم، لكنه، في المقابل، انتقد من يخضعون ملف الهجرة "لحسابات سياسية".
أما الجزائر فكان ردها أكثر حدة، وعلق الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون قبل أيام على النقاش الدائر في فرنسا حول مراجعة الاتفاقية التي تربط البلدين، قائلا: "هذه الاتفاقية جاءت لتجاوز اتفاقيات إيفيان حول حرية تنقل الأشخاص بين البلدين"، مذكراً بأنه "تمت مراجعتها كل 10 سنوات، حتى أُفرغت من محتواها، وتستعمل اليوم فزاعة".
ورقة للحسابات السياسية
وعلى الضفة الأفريقية من المتوسط، يقول ناشطون حقوقيون إن ملف المهاجرين غير النظاميين بات ورقة يبني عليها ساسة فرنسا مسيرتهم السياسية.
ويرى المتحدث باسم "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" المختص بقضايا الهجرة رمضان بن عمر أن وزير الداخلية الفرنسي الجديد الذي يقدم نفسه رجلاً للمرحلة المقبلة لحكم فرنسا يدشن طموحه السياسي، ككل السياسيين اليمينيين، بالتهجم على المهاجرين غير النظاميين رابطاً الأمن القومي الفرنسي بوجودهم.
ويشدد، في تصريح لـ"النهار"، على أن "هذا الوزير الذي يغازل شريحة واسعة من اليمينيين، لم يشذ في مقاربته ملف الهجرة عن المقاربة الأمنية التي باتت كأنها السياسة الأوروبية الرسمية".
ويلفت إلى أن فرنسا عادت للتلويح بورقة التأشيرات والتعاون الاقتصادي مقابل التعاون في إصدار التصاريح القنصلية لطرد المهاجرين من أجل إجبار دول المنشأ على القبول بالعودة القسرية للمهاجرين "وهو ما سبق أن فعلته قبل عامين".
ويوافقه الرأي أستاذ القانون الدولي في جامعة عنابة الجزائرية خالد خليف، إذ يرى أن ملف الهجرة كان ولا يزال موضع تجاذبات سياسية وأخرى اقتصادية، وحتى اجتماعية بين دول جنوب أوروبا وشمال أفريقيا.
ويلفت، في تصريح لـ"النهار"، إلى أن الأمر المؤكد هو أن هناك اختلافاً كبيراً وواضحاً في وجهات النظر بين دول شمال أفريقيا وفرنسا حول التعاطي مع هذا الملف الشائك، معتبراً أن "فرنسا تنظر الى الموضوع بشكل مناسباتي، إما في استحقاقات سياسية وانتخابية أو عقب أحداث أمنية".
توسع المخاوف الحقوقية
وتفاقم التصريحات الجديدة للوزير الفرنسي مخاوف المنظمات والناشطين في مجال الدفاع عن حقوق المهاجرين داخل فرنسا وخارجها.
ونددت جمعيات ومنظمات فرنسية وأوروبية بتصريحات ريتايو، معتبرة أنها مخالفة للمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، فيما رأى بعضهم أنها "تكشف حجم النفاق الفرنسي في التعامل مع المهاجرين"، في إشارة إلى استقبال آلاف الفارين من حرب أوكرانيا.
ويعتبر خليف أن التعلل بما يشكله هؤلاء المهاجرون من حمل على أوروبا مردود عليه باعتبار أن الأرقام تشير إلى حاجة الأخيرة إلى يد عاملة.
ويرى أن الحكومة الفرنسية، في تعاملها مع دول المغرب العربي، تستعمل ورقة التأشيرة والتعاون التجاري والاقتصادي وسيلة ضغط أو ابتزاز من أجل دفعها إلى قبول اتفاقيات تجبرها على الموافقة على عمليات الترحيل القسري لمهاجريها "وهو ما تدينه حتى المنظمات الحقوقية الفرنسية والأوروبية"، وفق تعبيره.
ويلاحظ بن عمر أن الحكومة الفرنسية الجديدة ذات التوجه اليميني تبدو مصممة على تطبيق سياسات أكثر قمعاً ضد المهاجرين ما يزيد من القلق مستقبلاً حول أوضاعهم، مؤكدا أنها لن تتوانى عن التضييق على الجمعيات المدافعة عن حقوقهم وحرمانهم من المساعدات الطبية والاجتماعية.
ويوضح أن الآلاف من التونسيين يقيمون بطريقة غير نظامية في فرنسا ومن واجب الدولة التونسية حماية حقوقهم بما فيها احترام مبدأ عدم الإعادة القسرية، لافتاً إلى كون تونس تعتبر الأكثر تعاوناً مع فرنسا في طرد أبنائها عبر المساعدة على التعرف إلى الهويات وإصدار التصاريح من دون الكشف عن حجم هذا التعاون.
ويدعو بن عمر الدولة التونسية إلى بذل جهد دبلوماسي أكبر من أجل حماية مهاجريها الذين يعيشون في وضع هش، سواء أكانوا نظاميين أم غير نظاميين، من خلال توفير المساندة والدعم القانوني لهم والرفض القاطع لسياسة الإعادة القسرية الجماعية.