أثار قرار منظمة الوحدة الأفريقية في 1963، باعتماد الحدود الموروثة عن الفترة الاستعمارية، في أفريقيا، مراجعات نقدية وانتقادات من مشاركين في جلسة افتتاح ندوة "أزمة الحدود في أفريقيا: المسارات الشائكة"، أولى ندوات موسم أصيلة الثقافي الدولي ال45، في دورته الخريفية، التي انطلقت مساء الاثنين، ويستمر حتى 30 من الشهر الحالي.
وذهبت آراء إلى حد استهجان مفارقة انتقاد مؤتمر برلين لعام 1885، الذي وضع أسس تقسيم القارة الأفريقية بين الدول الاستعمارية الأوروبية، وقبول "عطايا الاستعمار"، التي تسببت في توترات،جراء استغلال أنظمة قرار منظمة الوحدة الأفريقية، التي تحول اسمها إلى "الاتحاد الأفريقي" في 2002، لكي تستفيد مما ليس لها حق تاريخي فيه.
وشدد المشاركون على أن موضوع الحدود في أفريقيا معقد ومتشعب، لأنه يظل على درجة عالية من الحساسية السياسية، لارتباطه بسيادة الدول وهويتها، وبأحقيتها في حماية واسترجاع وحدتها الترابية.
واستحضر محمد بن عيسى، الأمين العام لمنتدى أصيلة، ما جرى سنة 1963 في مؤتمر منظمة الوحدة الأفريقية، حين تم استصدار قرار غير منصف، يقضي باعتماد الحدود الموروثة عن الفترة الاستعمارية في أفريقيا، وهو ما نتجت عنه توترات ونزوعات توسعية، لدى عدد من الأنظمة التي استغلت هذا القرار لكي تستفيد مما ليس لها حقٌّ تاريخي فيه، مشيرا إلى أن هذا الانحراف أدى إلى أزمات عانت منها أقطار أفريقية، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا.
ورأى بن عيسى أنه لن يكون ممكنا التغلب على نتائج وعواقب هذه المعضلة، إلا بالمقاربة المتبصرة، في إطار أجواء الأخوة والتعاون، ومنطق المصلحة المشتركة، وليس بمنطق القوة والتوسع.
وتحدث بن عيسى، في معرض مداخلته خلال الجلسة التي حملت عنوان "الجغرافيا السياسية الكولونيالية والقضايا الاستراتيجية الراهنة"، عن أزمة الحدود في أفريقيا، وقال إنها "تطرح إشكاليات تمس السيادة ووحدة الوطن، بل هي تمس أساس وجوهر الوجود الذي تقوم عليه الأوطان".
ورأى أن هناك أسبابا عديدة لأزمة الحدود، لم تتم معالجتها في وقتها، بالحزم الذي يستدعيه الموقف، وعلى قاعدة مبدأ الإنصاف، المنسجم مع حقائق التاريخ والجغرافيا، وهو ما جعل دولا وأنظمة معينة، تستفيد من مخلفات هذا الوضع، وذلك لأغراض توسعية؛ والأدهى أن تظل تلك الأنظمة مصرة على تثبيت وضعٍ هو من مخلفات الحقبة الاستعمارية.
وربطت مداخلات باقي المشاركين في هذه الجلسة بين الماضي والحاضر والمستقبل، في علاقة بالمسارات الشائكة لأزمة الحدود في أفريقيا.
وبقدر ما تحدث فؤاد يزوغ، السفير المدير العام للعلاقات الثنائية بوزارة الشؤون الخارجية والتعاون الأفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، في كلمة ألقاها نيابة عن ناصر بوريطة، وزير الشؤون الخارجية والتعاون الأفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، عن الإرث الاستعماري المتعلق بالحدود، وقال إنه خلق ندوبا وتداعيات سلبية جدا،وأزمات لم يتم حلها إلى اليوم، ركز على مسألة التعاون والاندماج الإقليمي، التي رأى أن بإمكانها أن تكون حلا لكل الإشكاليات المتعلقة بالحدود، مستعرضا في هذا السياق التجربة المغربية، تحت قيادة الملك محمد السادس، الذي أطلق مبادرات لصالح إفريقيا، بينها تسهيل ولوج دول الساحل إلى المحيط الأطلسي، التي يمكن أن تكون حلا لإشكالية الحدود،ولما سماه يزوغ "الظلم الجغرافي" للبلدان المعنية.
وأشار يزوغ الى مشروع أنبوب الغاز نيجيريا – المغرب، الذي قال إنه سيفيد في تطور وتنمية القارة السمراء من خلال تنمية الدول التي سيمر منها.كما تحدث عن مبادرة الشراكة من أجل التعاون الأطلسي، التي تروم تحقيق تكامل بين الدول المطلة على المحيط الأطلسي.
في مداخلته، خلال هذه الجلسة التي سيرها فيكتور بورغيس، وزير الخارجية السابق في الرأس الأخضر، انطلق مصطفى حجازي ، خبير الاستراتيجية السياسية والمستشار السياسي للرئيس المصري السابق ، من طرح يرى أن الجغرافياهي تاريخ ساكن، بينما التاريخ هو جغرافيا متحركة؛ ليقول بأن إفريقيا هي في بحث دائم عن ذاتها، وعن شخصيتها الطبيعية والبشرية والتكاملية والحضارية.
وعلى علاقة بتداعيات مؤتمر برلين، شدد حجازي على القول إن اقتسام ونهب القارة الأفريقية من طرف الدول الاستعمارية لم يخل من طرح فلسفي، جرى التعبير عنه بمصطلح "عبء الرجل الأبيض"، الذي يتم تقديمه على أنه يتبنى الموقف الإمبريالي الذي يرى أن مسؤولية الرجل الأبيض هي نقل الحضارة إلى شعوب الدول المستعمرة.
وفي علاقة بالمستقبل، دعا حجازي إلى التحدث عن المطلوب وليس المتاح؛ الشيء الذي يتطلب التفريق بين السعر والقيمة. ورأى حجازي أن أي تصور براغماتي يتحدث عن التعاون الاقتصادي كجسر، فقط للعبور بأفريقيا إلى مستقبل واعد، يمثل مقاربة قاصرة، بينما هناك حاجة إلى مقاربة مبدئية وشاملة تشمل الثقافة ، والعدل، والشراكة في الحلم، وحقوق الناس في العيش بسعادة، مع تشديده على أن السعادة هي شيء مبدئي وقيمي، وليست شيئا يُسعر.
من جهته، رأى زكرياء أبو الذهب، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة محمد الخامس في الرباط، أن مسألة الحدود تثير إشكالا فلسفيا، وأبستمولوجيا وأنطولوجيا، مشددا على أن التركة الاستعمارية ما زالت تعشش في الأذهان، وحتى في القانون غير المنصف حين تكون مرجعيته غربية. وأعطى مثالا لذلك بمسألة الحدود الموروثة عن الاستعمار، كما أقرتها منظمة الوحدة الأفريقية. كما تحدث عن "تقرير المصير"، وقال إنه يبدو عادلا في شكله، ويسعى إلى تطبيق إرادة الشعوب، غير أنه يتضمن، في كنهه، مجموعة من الميكانيزمات التي تحدث نوعا من اللا عدل.
وتحدث الصادق الفقيه، الأمين العام لمنتدى الفكر العربي بعمان( السودان ) ، عن "واقع الحال"، الذي يشمل التاريخ الاستعماري وما بعده، فضلا عن الجغرافيا. وشدد على القول إنه "لا يمكن أن نتحدث عن الحدود دون التطرق إلى التاريخ والجغرافيا"، مشيرا إلى أن الحدود الإفريقية فيها تعدد مربك في كل شيء، وأن ما تركه المستعمر زاد كثيرا من هذا الإرباك، مضيفا أن الدول المستعمرة عقّدت الأمور كثيرا في أفريقيا، في زمن استعمارها وقبل خروجها منها.
وتطرق الفقيه إلى القرار المتعلق بالحدود الموروثة عن الاستعمار، ورأى أن منظمة الوحدة الأفريقية لم تجمد الحدود فقط، وإنما كل متعلقات هذه الحدود، مشيرا إلى أن أخطر هذه المتعلقات، يتعلق بالعقل، والثقافة، والحالة الاجتماعية والاقتصاد السياسي؛ مع إشارته إلى أن القارة الأفريقية تتحدث بلسان غير لسانها، وتتحرك في حدود لم يكن لها شأن في رسمها، وهي حدود بين الدول وداخل الدول. وفضلا عن كل هذا، يضيف الفقيه، ظلت هناك إشكاليات كثيرة، مثل "فرق تسد".
وعلى علاقة بمعطى الحدود الموروثة عن الاستعمار، تحدث الفقيه عن "العطايا الاستعمارية"، التي عدها تعقد غالبية المشكلات في عالم اليوم؛ قبل أن يشدد على أن الماضي الاستعماري في إفريقيا ترك بين كل حد وحد بؤرة للصراع، ممثلا لذلك بالسودان وعلاقاته مع دول الجوار.
ما خلص إليه الفقيه، في مداخلته، وجد له مساحة في مداخلتي حاجي أمادو سال، وزير العدل السنغالي السابق، وأحمدو ولد عبد الله، وزير الخارجية الموريتاني الأسبق ، والممثل الخاص السابق للأمم المتحدة في غرب أفريقيا، حيث كان الموعد مع رصد ما تثيره إشكالية الحدود بين معظم دول القارة السمراء، مع التشديد على أن الحدود صارت إشكالا معقدا، أضحت له تداعيات قانونية واقتصادية وسياسية وأمنية، قبل أن تفاقمه التطورات التكنولوجية المتسارعة.