ألقى مفتي الديار المصرية الدكتور نظير عياد، في حواره مع "النهار "، الضوء على الكثير من إشكاليات تجديد الخطاب الديني، والاجتهاد في قراءة النصوص التشريعية، ومدى الاستفادة من المدارس الفكرية والفلسفية التنويرية التي جبهت مشاريع الإسلام السياسي. وتناول حقيقة تعارض النظم الديموقراطية والقوانين الوضعية مع مفاهيم الخلافة والحكم الرشيد، وإشكالية تقديم الانتماء الديني على الانتماء الوطني، وحكم القتال تحت راية الكيانات والميليشيات المسلحة.
وأوضح رؤيته للخلاف الشعبي حول دور فصائل المقاومة المسلحة في التحرير الوطني، ودور "المسيحية الصهيونية" و"اليمين المتطرف" الإسرائيلي في التحريض المباشر على الجرائم في داخل قطاع غزة ولبنان، وتوظيف منصات التواصل الاجتماعي من الجماعات الأصولية في تجنيد الشباب تنظيمياً وفكرياً، والأسباب الحقيقية لتنامي ظاهرة "الإسلاموفوبيا" في المجتمعات الغربية.
هنا نص الحوار:
* يمر المجتمع المصري بحالة من الفوضى في "الإفتاء الديني" نتيجة انتشار "دكاكين السلفية" في السنوات الأخيرة، وإنتاج عشرات الدعاة غير المؤهلين علمياً ومعرفياً، من دون أي رد فعل حقيقي من القائمين على المؤسسات الدينية الرسمية أو على الدولة المصرية. فهل من توصيات وتعديلات قانونية طرحتها دار الإفتاء لوقف تمدد ظاهرة الغلو والتطرف الديني؟
- بالفعل، شهد المجتمع المصري حالة من الفوضى في الإفتاء الديني نتيجة أسباب عديدة، منها توسع انتشار بعض الجماعات المتشددة، وما لاقوه من دعم إعلامي عبر كثير من الفضائيات ومواقع الإنترنت، بل وحضورهم في العديد من المساجد والزوايا في المدن والقرى المصرية.
لكن المؤسسات الدينية بكل فروعها، وبدعم من الأزهر الشريف والدولة المصرية، واجهت هذه الظاهرة برد فعل جاد وحازم أعاد الأمور إلى نصابها. فالمساجد كلها أصبحت تحت إشراف مباشر من وزارة الأوقاف، وصار الدعاة فيها من أئمة الأوقاف ووعاظ الأزهر الشريف. أما في الجانب الإعلامي فقد شهدت السنوات الأخيرة ظهور عدد كبير من الدعاة والفقهاء الوسطيين من علماء الأزهر ودار الإفتاء والأوقاف المصرية، وقد صار لدار الإفتاء المصرية فروع عديدة في كثير من المدن المصرية، ومن المخطط له زيادة هذه الفروع لسد الفجوة التي يمكن أن ينفذ منها أصحاب التوجهات المتطرفة في الفقه والفتوى. وفي السياق عينه، توسعت لجان الفتوى في الأزهر الشريف لتشمل كل مدن مصر، بإشراف من مجمع البحوث الإسلامية الذي تشرفت بأمانته لفترة طويلة.
والحقيقة أن ما قدمته المؤسسات الدينية المصرية في هذا الصدد كان تجربة ثرية وناجحة يمكن أن يستفيد منها كثير من البلدان التي تعاني ويلات الطائفية والنزاعات المذهبية.
وتسعى دار الإفتاء جاهدة إلى تعزيز التعاون مع المؤسسات الدينية من كل أنحاء العالم، لتوحيد الجهود في مواجهة الأفكار المتطرفة، وتدعم كل المساعي الرامية إلى سن تشريعات وقوانين صارمة لكبح جماح فوضى الفتاوى. وفي هذا الإطار، قدمت الدار برامج تدريبية للدعاة والأئمة وأمناء الفتوى لتزويدهم المعرفة والخبرة اللازمتين لنشر الفكر الوسطي المعتدل، وأصدرت في العقد الأخير ردودا علمية موثقة وفتاوى واضحة، تفكك كل مفردات الفكر المغالي والمتطرف.
* تحولت "السوشال ميديا" إلى مساحة بديلة للمساجد والمؤسسات المدنية في عمليات الاستقطاب الفكري والتجنيد التنظيمي، من الجماعات الأصولية المتطرفة، فما هي رؤيتكم لوقف هذه المشاريع وحماية العقل الجمعي للشارع المصري والعربي من التخريب الفكري المتعمد؟
- وسائل التواصل الاجتماعي سلاح ذو حدين، فهي تُستخدم بطرق شتى، سواء في الخير أو في الشر. وما نراه اليوم من استغلال الجماعات الأصولية المتطرفة لتلك الوسائل يعد من أخطر التحديات التي تواجه الأمة في هذا العصر. لقد تحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى فخاخ معقدة تستهدف الشباب نحو الأفكار المتشددة أو الأفكار المتحللة التي لا تقل خطراً عن التطرف.
إن خطورة هذه الوسائل تكمن في قدرتها على الوصول إلى العقول بسهولة، واستغلالها للظروف السياسية للدول، والظروف الاجتماعية والنفسية لبعض الشباب. لذلك، تقع على عاتق المؤسسات الدينية مسؤولية كبيرة في توعية المجتمع على خطورة هذه الأفكار، وتقديم بدائل فكرية وسطية تقوم على أسس متينة من الفهم الصحيح للإسلام.
نحاول في دار الإفتاء المصرية العمل على زيادة المحتوى الديني والتعليمي الجذاب وتقديمه بأسلوب عصري يتناسب مع اهتمامات الشباب ويعكس سماحة الإسلام ووسطيته. وفي هذا الصدد، أنشأت الدار وحدات متخصصة لمراقبة المحتوى المتطرف والرد عليه بأسلوب علمي رصين، ونحاول توفير منصات تفاعلية للنقاش والحوار البناء. ونعمل على تطوير برامج تدريبية لتعزيز قدرات الشباب على التفكير النقدي والتمييز بين المعلومات الصحيحة والمغلوطة. وفي الأيام المقبلة سنكون في صدد التعاون مع المؤثرين في وسائل التواصل الذين يتمتعون بشعبية كبيرة بين الشباب لنشر رسائل إيجابية تدعو إلى الوحدة والتسامح.
لا يمكن المؤسسات الدينية وحدها مواجهة هذا المد الجارف للتطرف على السوشال ميديا. إن التحدي كبير ويتطلب تكاتف جميع الجهود. فعلى الدعاة والوعاظ والمعلمين والمثقفين والإعلاميين أن يتحملوا مسؤولياتهم أيضاً، ويعملوا معاً لتعزيز نشر محتويات هادفة تدعم الفكر الوسطي المعتدل، وتبرز جمال الإسلام الحقيقي، بدلاً من تركهم عرضة لمحتويات التفاهة أو التشدد. حماية العقل الجمعي من التخريب الفكري ليست مسؤولية المؤسسات الدينية وحدها، بل واجب على الجميع: الدولة والمؤسسات والأفراد، كل له دور مهم، وأي خلل يؤثر على المنظومة ككل.
* لا تزال أزمة الاجتهاد في قراءة النص الديني واقعة بين صراع المدارس التقليدية المتمسّكة بالموروث في استنباط الحكم الشرعي ودعوات تنادي بضرورة إيجاد مناهج معرفية علمية أكثر اتساعاً في فهم النص الشرعي. أين دار الإفتاء المصرية من هذا الصراع؟ وما هي مساعيها لتجديد الخطاب الديني في ظل المتغيرات؟
- دار الإفتاء المصرية تتعامل مع قضية الاجتهاد في قراءة النصوص الدينية بحذر وتوازن، فهي تدرك أهمية الحفاظ على التراث الإسلامي وتقدير الموروث الشرعي الذي يحمل في طياته قيما أصيلة ومبادئ راسخة، وفي الوقت عينه تعي ضرورة مواكبة متغيرات الحياة العصرية وتطوراتها المتسارعة. والصراع بين المدارس المتسكة بالمناهج التراثية والدعوات إلى توسيع مناهج الفهم لتشمل المناهج العلمية والفلسفية الحديثة، يتطلب منا توجيهاً حكيماً. وقد اختلف الأصوليون قديماً حول بعض المصادر كالقياس والاستصحاب والمصالح المرسلة.
ولقد هبت على العالم العربي منذ عقود نظريات فلسفية ونقدية حديثة، مثل "البنيوية"، التي ركزت على تفكيك النصوص وعناصرها الصوتية والصرفية والنحوية، و"التحويلية التوليدية" التي تحاول الانتقال بين البنى العميقة والسطحية للنص، و"النظرية النصية" و"التداولية". ورغم أن هذه النظريات وليدة ثقافة أخرى غير الثقافة العربية والإسلامية، لا نجد أي مانع في الاستفادة منها شرط أن تكون مقيدة بمقاصد الشريعة الإسلامية وثوابتها.
نحن في دار الإفتاء لا نرفض الاستفادة من هذه المناهج الحديثة، لكننا نضع حدوداً وضوابط دقيقة لذلك. لا نتعامل مع النصوص الشرعية، وخصوصاً القرآن الكريم، كنصوص بشرية يمكن تطبيق أي نظرية أدبية عليها في شكل حر. فالقرآن نص إلهي له قدسيته التي يجب احترامها، ولا يجوز لنا استخدام هذه النظريات بتعسف لتحميل النص معاني بعيدة عن مقاصده. لذلك، لا يمكن الاعتماد على تلك النظريات وحدها كأساس مستقل للاستدلال الشرعي، لأن هذا قد يؤدي إلى إصدار أحكام مشوهة لا ترتبط بالتراث ولا بالواقع في شكل سليم.
من هذا المنطلق، تسعى دار الإفتاء المصرية دائماً إلى تجديد الخطاب الديني بما يوازن بين الثوابت الشرعية ومتطلبات العصر، من دون المساس بقدسية النصوص أو تفريغها من محتواها الأصلي.
* هل يمكن إعادة النظر في المشاريع الفكرية التنويرية لتجديد الخطاب الديني وإصلاحه، سواء تلك التي خرجت من رحم المؤسسة الأزهرية أو من رحم المؤسسات المدنية، أمثال عبد المتعال الصعيدي، ونصر حامد أبو زيد وغيرها، للاستفادة مما طرحته من إشكاليات، بما يخدم الحياة البشرية وتطوراتها ما لم تتصادم مع الثوابت الشرعية؟
- بصفتي أستاذاً في العقائد والفلسفات، لم أنقطع يوماً عن المشاريع الفكرية التجديدية التي طُرحت على مر العقود الماضية، سواء من داخل المؤسسة الأزهرية كاجتهادات الشيخ عبد المتعال الصعيدي والشيخ أمين الخولي وغيرهما، أو من خارج المؤسسة الأزهرية كاجتهادات الدكتور حسن حنفي والدكتور عبد الصبور شاهين والدكتور نصر حامد أبو زيد وغيرهم، أو حتى من خارج مصر كمشروع الدكتور طه عبد الرحمن. إن أكثر مشاريع التجديد التي ظهرت خارج المؤسسة الأزهرية تدين بفضل كبير في نشأتها وأفكارها لمدرسة الإصلاح والتجديد الأزهرية التي أرسى قواعدها مفتي مصر الأستاذ الإمام محمد عبده رحمه الله. والحقيقة أن أي مشروع إصلاحي أو تجديدي، شأنه شأن أي مشروع علمي وفكري في الدنيا، له ما له وعليه ما عليه. ولا شك في أن المشاريع التي تفضلتم بذكرها قد ساهمت في تقديم قراءات جديدة للنصوص الشرعية، لكن بعض النقاد يرى أنها في بعض الأحيان تجاوزت حد قواعد التفسير وضوابط التأويل المعتبرة لدى الأصوليين، مما تسبب بالمساس ببعض الثوابت.
ومن هنا تؤكد المؤسسات الدينية دائماً، وعلى رأسها دار الإفتاء المصرية، أن التجديد والإصلاح يجب أن ينطلق من الأسس والثوابت لتحقيق التوازن بين الحفاظ على التراث الديني الذي يمثل هوية الأمة وتلبية حاجات العصر التي صارت ضرورة ملحة.
في أي حال، فإن "الحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها فهو أحق الناس بها". ودار الإفتاء المصرية تنظر إلى كل مشاريع التجديد بعين منفتحة، وتأخذ منها ما يتوافق مع رؤاها وسياستها في الاجتهاد والفتوى، وتراعي تغيرات الواقع في ضوء مقاصد الشريعة السمحاء.
* تعيش المجتمعات العربية والإسلامية حالة من التفرقة والتشتت في إطار ما يعرف بـ"الفوضى الخلاقة"، من خلال صناعة ميليشيات مسلحة أو إشعال الصراعات الطائفية والمذهبية أو تدشين الجماعات الأصولية المتشددة. كيف ترون خطورة هذا الانقسام الفكري والمذهبي؟ وما دور هذه الشعوب في الحفاظ على مقدرات الوطن وحمايته في ظل المخاطر التي تحاصر الدولة المصرية استراتيجياً؟
- لا شك في أن هناك قوى تقف وراء تأجيج الفتن الطائفية والمذهبية التي تنخر في جسد الوطن العربي والإسلامي، لإشعال الصراعات الداخلية وتقسيم المجتمعات على أسس طائفية ومذهبية، حتى تبقى النار مشتعلة والصراع مستمراً. هذا ليس أمراً عفوياً، بل تقف وراءه مساعٍ ممنهجة لإحداث الفوضى التي يسمونها "الفوضى الخلاقة"، والحقيقة أنها ليست خلاقة كما يزعمون، فهي لم تحمل معها إلا الخراب والتمزق للأوطان، والتباعد بين أبناء الوطن الواحد، وإضعاف قدرتهم على مواجهة أي تحدٍّ أو عدو.
وقد شهدنا يا للأسف، تجارب مريرة في بعض الدول، حيث عززت النزاعات (الطائفية والمذهبية والقبلية) نشأة الكيانات والميليشيات المسلحة الخارجة عن إطار الدولة، ورأينا هذه الكيانات تتوسع وتفرض نفسها كسلطة فوق السلطة، ودولة فوق الدولة، بما أهدر طاقات الجيوش الوطنية وأضعفها، وأدى إلى تراجع دورها في مواجهة الأعداء الحقيقيين. كما تسببت بإشاعة جو عام من الازدراء والكراهية والشحن بين الأخوة وأبناء الوطن الواحد. كل ذلك أدى إلى واقع مربك ومعقد لعلماء هذه البلدان.
إنه درس عملي مؤلم لكثير من الشعوب والأوطان أن يتم اجترارها بحيل خبيثة للفرقة والصراع، ونحن نؤكد دائماً أن الفتوى والخطاب الديني يجب أن يراعيا الواقع السياسي والثقافي والاجتماعي الذي يختلف بين بلد وبلد، ودولة ودولة. وقد قيل: "أهل مكة أدرى بشعابها"، بمعنى أن أهل كل مجتمع هم أقدر الناس على فهم حاجاته وتلمّس مسارات استقراره ونهضته، ونحن في دار الإفتاء نبسط أيدينا بالخير للجميع، ونمد يد العون لأي مؤسسة دينية في كل البلدان العربية الشقيقة حتى يتم تجاوز تلك الفترة العصيبة من تاريخ أمتنا.
والتجربة المصرية في هذا الصدد ناجحة إلى حد كبير، إذ واجهت القوات المسلحة والأجهزة الأمنية بحسم هذه الكيانات المسلحة الإرهابية في مهدها، وقضت عليها قبل أن تنبت أنيابها، وتمزق نسيج هذا الوطن الآمن.
ومن عظمة التراث الفقهي الإسلامي أنه كان على دراية واضحة بخطورة هذه الظاهرة على أمن المجتمعات، لذلك نجد جماهير الفقهاء يحضون على لزوم الجماعة، وعدم التفرق، وفي وقت الجهاد يؤكدون ضرورة وجود الراية الصحيحة، ويحرمون القتال تحت الرايات المغشوشة للجماعات والكيانات والميليشيات المسلحة، مستندين في ذلك إلى سنّة النبي الأكرم الذي قال: "من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات فميتتُه جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برَّها وفاجِرَها، لا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد بعهده، فليس من أمتي، ومن قاتل تحت راية عمية يقاتل لعصبة ، أو يغضب لعصبة، فقتله قتلة جاهلية".
وأقول بقلب مشفق لجموع الشعوب العربية، والشعب المصري على وجه الخصوص، إن زرع الفتنة والفرقة بين أبناء الوطن الواحد لا يخدم إلا أعداء الأمة، ويتيح للخصوم التغلغل في الداخل، والسيطرة على الموارد، والتحكم في القرار، وهذا ما رأيناه في بعض البلدان التي باتت نهباً لتدخلات خارجية، في غياب الدولة الوطنية القوية.
وأوجه ندائي إلى جموع علماء الأديان، أن لا سبيل للخلاص من مشكلات التعصب والطائفية والتمييز والكراهية إلا التحلي بروح التسامح والاعتراف بالآخر، وتقديس قيمة التعددية التي هي منحة إلهية ومصدر قوة للأمة. فالله تعالى خلق الناس مختلفين ألواناً وألسنة وقبائل، ليتعارفوا ويتعاونوا، وليكون الاختلاف بينهم زينة للحياة، لا سبباً للفتنة. يجب أن يعي الجميع أن اختلاف الرأي والمذهب حق مشروع لكل للعلماء، ما دام في إطار الشريعة والقانون، ولا يمس أمن الوطن واستقراره.
أما مصرنا الحبيبة حفظها الله، فإن تماسك شعبها ووحدة نسيجه الوطني، هو الركيزة الأساسية التي تقوم عليها قوة جيشنا العظيم، في وجه تلك التحديات التي تعصف بالمنطقة، وتعزيز استمرار هذه الوحدة بين الشعب والجيش هو الحصن المنيع الذي لا يقهره عدو. نسأل الله عز وجل أن يجمع شمل أمتنا، وأن يعيد إليها وحدتها، وأن يحفظ لنا أوطاننا من كل سوء.
* منذ نشأت تيارات "الإسلام السياسي"، تضع على رأس أولوياتها قضية الخلافة، واعتبرتها ركناً سادساً من أركان الإسلام، فهل فعلاً سقط الإسلام بسقوط الخلافة؟ وهل "الحكم الديموقراطي" يتنافى مع الحكم الرشيد، أو يتعارض مع الإطار الشرعي مثلما تزعم هذه الجماعات في طرحها الفكري والسياسي؟
- من الضروري الفهم أن الخلافة ليست شكلاً ثابتاً وموحداً لنظام الحكم الإسلامي، بل هي مفهوم أوسع وأعمّ تحكمه مقاصد الشريعة حول "ضرورة الاجتماع على حاكم يحفظ مصالح الأمة". هذا المقصد يمكن تحقيقه من خلال أنماط سياسية مختلفة عبر الزمن، وفقاً لما يناسب قدرات الأمة الإسلامية وإمكاناتها في كل عصر. وقد تغيرت صور الدولة الإسلامية مرات عديدة عبر التاريخ، ولم تكن الخلافة المركزية سوى حالة محدودة في صدر الإسلام، إذ إن معظم التاريخ الإسلامي بعد الخلافة الراشدة، شهد تعددية في الحكومات والولايات التي تُدار في شكل لا مركزي، بما يخدم المصلحة العامة.
الخلافة إذا ليست شرطاً لازماً لاستمرارية الإسلام أو فاعليته في المجتمع، بل الإسلام يستمر برسالته ومقاصده الكبرى في الحكم، وهي إقامة العدل، وتحقيق الأمن، وحفظ مصالح الأمة.
إننا نؤكد دائماً أن "شكل الحكم" في النظام الإسلامي ليس قضيَّة تعبدية محضة كالصلاة أو الوضوء، بل هي قضية عملية تتعلق بتحقيق مقاصد الشريعة في المجتمع من خلال وسائل تتناسب مع طبيعة العصر والبيئة التي يعيش فيها المسلمون. ومن هنا، فإن النظام الديموقراطي الذي يُبنى على آليات انتخاب الحاكم ومشاركة الشعب في صنع القرار ومراقبة أداء الحكومة، لا يتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية. ففي الإسلام، المسؤولية السياسية تعود لأهل الحل والعقد من العلماء وأصحاب الخبرة، الذين يسعون إلى اختيار الأنسب للمجتمع بما يتوافق مع الشريعة، كما يتبع الشعب خيارهم ويشاركهم الرأي في ما يضمن المصلحة العامة، وهذا التصور قريب إلى حد كبير من النظام الديموقراطي.
والديموقراطية لا تتنافى مع الحكم الرشيد، بل على العكس، قد توفر ضمانات للعدل والمساواة والتداول السلمي للسلطة، وهي قيم أساسية يتبناها الإسلام. وإذا كان المبدأ الأساسي في الشريعة هو تحقيق مصالح الأمة والقيام بمسؤوليات الحاكم تجاه رعيته. فيمكن الديموقراطية، إذا طُبِّقت وفق الضوابط السليمة، أن تكون وسيلة فعّالة لتحقيق هذا المبدأ، إذ تحافظ على حقوق الأفراد، وتدعم الشورى والمشاركة المجتمعية، وتعزز المساءلة أمام الأمة.
وبما أن الخلافة ليست الشكل الوحيد الممكن لتحقيق مقصد "إقامة الحكم الرشيد وحفظ الأمة"، فإن التعاون بين الدول الإسلامية يمكن تحقيقه الآن على شكل اتحاد أو هيئة جامعة تمثل المصالح الكلية المشتركة. ويعد هذا من الوسائل العملية التي يجب دعمها وتبنيها اليوم. فمثل هذا النظام قد يوفر التعاون (السياسي والاقتصادي والعسكري) بين الأقطار الإسلامية ويضمن رفاء شعوبها، من دون الحاجة إلى فرض شكل واحد للحكم، يتناقض مع تغيرات العصر الحديث وتحديات العولمة.
* ظلت الأنظمة السياسية الحاكمة في مرمى سهام "الجماعات الأصولية" وتيارات "الإسلام السياسي"، ونالت قدراً من التجريح والاتهامات في إطار عملية من التزييف وخداع الرأي العام، بهدف تفكيك الجبهة الداخلية وتلاشي تماسكها. فهل حقاً الدولة المصرية وكذلك الدول العربية لا تطبق الشريعة وتخرج عن دائرة الإسلام وحدوده مثلما يزعم اتباع تيارات الإسلام السياسي؟ وهل يقتصر تطبيق الشريعة على تطبيق الحدود فقط؟
- مفهوم "الطائفة الممتنعة" في التراث الفقهي الإسلامي ليس عاماً ليشمل كل طائفة عطلت جزءاً من الشريعة، وقد ورد هذا المصطلح في التراث الفقهي بداية من الشيخ ابن تيمية -رحمه الله-ومن بعده، وأرادوا به تلك الجماعة التي تمتنع عن شعائر ثابتة معلومة من الدين بالضرورة، كالصلاة أو الزكاة، أو التي لا تمتنع عن سفك دماء المسلمين وأخذ أموالهم أو تحكيم الشريعة. وقد قُصد بهذا المفهوم تلك الجماعات التي كانت ترفض حكم الشريعة جهاراً نهاراً، وتمتنع عن تطبيق أصول الدين، بما يهدد النظام المجتمعي العام القائم على الشريعة.
هذا المفهوم استخدمته جماعات الإسلام السياسي في عصرنا بشكل خاطئ، حيث قامت بتوسيع دائرة "الطائفة الممتنعة" لتشمل الحكومات الإسلامية المعاصرة وكل من اعتقدوا أنه يحكم بغير ما أنزل الله في قضية أو قضيتين، ووصفتها بأنها "ممتنعة" متجاهلةً التفصيلات التي وضعها الفقهاء، وجاعلةً أحكامها مستندة إلى فتاوى قاصرة تفتقر إلى العلم والفهم الصحيح لأصول الدين وفروعه.
إن الشريعة الإسلامية تتناول جوانب الحياة كافة، من عبادات ومعاملات وأخلاق، لكنّ المتطرفين حصروا مفهوم "تطبيق الشريعة" بتطبيق الحدود فحسب، وكأن الدولة إذا لم تطبق بعض الحدود أصبحت خارجة عن دائرة الإسلام، في حين أن الشريعة أوسع من الحدود بكثير، فلا يجوز حصرها في باب واحد فقط دون سائر الأبواب، وهذا ما وقع فيه من غالى في أحكام التكفير من دون علم أو تمحيص.
ثم إن القول بأن القوانين الوضعية تتناقض مع الشريعة الإسلامية، يتجاهل أن الشريعة الإسلامية قد تكون هي مصدر القوانين الوضعية، وهذا ما نص عليه الدستور المصري في مادته الثانية على سبيل المثال. وهو ما يكفل التزام الدولة ما لا يتعارض مع أصول الإسلام. ومن هنا، فإن التحاكم إلى القوانين الوضعية تحت إطار الدستور لا يخرج من دائرة الإسلام، ما دامت تلك القوانين تتوافق مع مبادئ الشريعة وأهدافها في حفظ النظام والأمن العام وتحقيق مصالح الناس.
إن القوانين الوضعية الحديثة في البلاد الإسلامية تندرج ضمن ما يسمى "المصالح المرسلة"، وهي من الأدوات التنظيمية التي يستعان بها لضبط حياة الناس وتنظيم أمورهم في ظل الظروف المعاصرة، فهذه القوانين ليست بديلاً من الشريعة، بل هي جزء من وسائل تنظيمها في الواقع الحديث.
وفي حال ظهور قوانين أو تشريعات تتعارض جلياً مع الشريعة الإسلامية، فإن الاعتراض عليها مشروع، ولكن يجب أن يتم ذلك عبر القنوات التشريعية والفقهية من خلال أهل العلم والخبراء، وعلماء المؤسسات الدينية، وليس لعامة الناس الاجتهاد في تقدير (مخالفة أو موافقة) القوانين للشريعة، إذ يتطلب ذلك علماً وفهماً للشرع والواقع. وهذه المسائل مردها إلى أهل الحل والعقد من العلماء، لا إلى من لا يملك أدوات الفقه والعلم الكافي.
* هل ترون أن انتشار "التيارات السلفية" وتشدد الكثير منها وبعدها عن مفاهيم الوسطية والاعتدال الديني، تشكل تقصيراً من القائمين على المؤسسة الدينية الرسمية في مصر، لا سيما المؤسسة الأزهرية التي تركت الساحة مفتوحة من دون أن يكون لها وجود فاعل في الفترات الزمنية السابقة؟ وهل لدور الإفتاء دور في وقف هذا التمدد؟
- مسألة انتشار التيارات "المتشددة" وابتعادها عن مفاهيم الوسطية والاعتدال لا تُعدّ تقصيراً من جهة بعينها، لأن التصدي للتشدد والغلو مسؤولية مجتمعية عامة تقع على عاتق جميع أفراد المجتمع، ومختلف المؤسسات الدينية والتعليمية، بل والدولة بأسرها.
والمؤسسة الأزهرية، بما لها من عراقة وتأثير واسع على الصعيدين المحلي والدولي، تبذل جهوداً عظيمة في نشر الوسطية ونبذ التشدد عبر برامجها ومناهجها في التعليم والتثقيف الديني، وحرصها على دعم كل ما يقود الأمة نحو الوسطية والاعتدال ويجمع بين الحفاظ على الثوابت الشرعية واحترام الواقع الاجتماعي المتغير.
وتمثل دار الإفتاء المصرية جزءاً أساسياً في هذه الجهود، فهي تعمل باستمرار على التصدي للأفكار المتشددة عبر الفتاوى المستنيرة والمتوازنة التي توضح حقيقة الإسلام وسماحته بعيداً من مظاهر الغلو والانغلاق، إلى جانب إقامة الندوات والمبادرات التي تستهدف الشباب خصوصاً في مواجهة الأفكار المتطرفة، وإبراز أهمية التعايش السلمي بين جميع مكونات المجتمع. وتعمل الدار على إصدار فتاوى مدروسة تتناول قضايا العصر وتراعي تغير الظروف والأحوال. وتحرص على تبيان الفهم الصحيح للدين عبر إظهار ما دعا إليه الإسلام من توازن بين مصالح الفرد والجماعة، وتوضيح أن الإسلام جاء رحمة للعالمين، وأنه لا يقبل التحجر والانغلاق الذي تروّج له بعض التيارات المتشددة. كما تقوم الدار بدور فاعل عبر وسائل الإعلام والمنصات الإلكترونية، وقد أطلقت في هذا الصدد العديد من الحملات التوعوية لمكافحة الفكر المتشدد. وساهمت في شكل منهجي في توجيه الأفراد والمجتمع نحو اتباع منهج أهل السنة والجماعة الذي هو الضمان الأمين للوسطية والاعتدال، وذلك عبر برامج تدريبية ومحاضرات تثقيفية داخل مصر وخارجها، مستهدفة بذلك تفنيد دعاوى التشدد وتحصين الأجيال الناشئة.
وما ينبغي تأكيده هنا أنه يجب أن تتضافر جهود كل مؤسسات المجتمع وأفراده في تحقيق هذا الهدف السامي. ولعل الأسرة والمدرسة هما النواة الأولى للتوجيه السليم للأبناء. فالأسرة يقع عليها واجب التربية القائمة على تعليم التسامح وقبول الآخر وغرس القيم الإنسانية، بينما تؤدي المدرسة دوراً تربوياً كبيراً في تقديم المناهج التعليمية التي تعزز ثقافة الحوار وتقبل التنوع. كما أن الجامعة تتحمل مسؤولية كبيرة في تعليم الطلاب أسس التفكير النقدي والعلمي، وتنمية وعيهم ليصبحوا قادرين على التمييز بين صحيح الدين ومظاهر الغلو التي تخالف روح الإسلام السمحة. وتعتبر المؤسسات الإعلامية شريكاً رئيسياً في توجيه الوعي العام من خلال تقديم محتوى إعلامي يعزز الوسطية وينبذ التشدد والغلو.
* لماذا وضعت تيارات الإسلام السياسي على قائمة أولوياتها محاولة اختراق المؤسسة الأزهرية، فضلاً عن تعمدها المستمر تشويه دار الإفتاء المصرية وصناعة مؤسسات افتراضية بديلة تستحوذ على العقل المصري؟ وهل هناك مساحة من التقارب العملي والمشترك بين كل من الأوقاف والأزهر والافتاء، لتجفيف المنابع الفكرية لهذه الجماعات؟
- من المعلوم أن المؤسسات الدينية الرسمية في مصر، مثل الأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية، والأوقاف، تبذل جهوداً عظيمة للحفاظ على صورة الإسلام الوسطية السمحة، بعيداً من الغلو والتشدد، ملتزمة في ذلك منهج أهل السنّة والجماعة الذي قام عليه الأزهر منذ مئات السنين وصار التزامه جزءاً أصيلاً من وجدان هذه المؤسسة وطبيعتها، لا يمكن تغييره أو تبديله أو اختراقه بيسر وسهولة!
أما تيارات الإسلام السياسي فقد أرادت الترويج لأفكارهم التي تتسم بالتحزب، فسعت أولاً: إلى احتواء المؤسسة الأزهرية والتأثير على دار الإفتاء والأوقاف، ولكن خابت مساعيها ورفضت المؤسسات الدينية أن تتحول إلى مجرد أدوات حزبية وطائفية بأيدي جماعات العنف والإرهاب. هذا ما أثار حفيظتهم، ويفسر موجات الهجوم التي تعرضت لها القيادات الأزهرية في مصر في فترة من الفترات، ويفسر أيضا محاولات العبث بتغيير قانون الأزهر والتي باءت جميعها بالفشل.
وسعت بعد ذلك إلى إنشاء مؤسسات وكيانات بديلة، ربما على المستوى المحلي والدولي، وعملت من خلال هذه الكيانات على تقديم صورة من الإسلام تتماشى مع رؤيتهم السياسية والأيديولوجية، بعيداً من المنهج الذي يلتزمه الأزهر والإفتاء، ولما كانت المؤسسة الأزهرية تحظى بثقة شعبية وجماهيرية، ولم تفلح محاولات السيطرة عليها، فقد سعت هذه الجماعات إلى تشويه صورتها للتمكن من السيطرة على الرأي العام بلا منافس!
وفي هذا السياق قامت باستغلال عدد من القضايا والمسائل الفقهية الشائكة، واختارت عدداً من الأقوال والمذاهب والآراء الأكثر تشدداً، وقدمتها للجمهور على أنها الرأي الشرعي الصحيح دون غيره، مما أوجد حالة من البلبلة في عقول الناس، وبث حالة من الشك في مؤسسات الدولة الدينية. وقد استغلت وسائل الإعلام البديلة والمنصات الإلكترونية لإطلاق مبادرات ومنصات بديلة، تحمل أسماء وشعارات تجذب الناس، لكنها في الواقع لا تمثل الفهم الصحيح للشريعة، وإنما تهدف في الأساس إلى تحقيق أغراض سياسية خاصة.
ولمواجهة هذه الظواهر شهد العقد الأخير تعاوناً غير مسبوق بين المؤسسات الدينية في مصر، ممثلة بالأزهر الشريف ودار الإفتاء ووزارة الأوقاف، في تقديم جهود مشتركة لتصحيح المفاهيم ونشر الفهم الصحيح للدين، وتجفيف منابع الفكر المتطرف عبر برامج وخطط تعليمية وتوعوية، وتناول الردود العلمية المتينة على شبهات الجماعات المتشددة.
وفي هذا الصدد تؤمن دار الإفتاء المصرية بأن تكامل الأدوار هو السبيل الأفضل لتحقيق رسالة الإسلام الوسطية. فكل مؤسسة تقوم بدور مهم في حماية المجتمع، سواء من خلال الإفتاء، أو التعليم، أو التوعية الدينية، ولو كان التكامل على مستوى عالمي ستكون النتائج أكثر نجاحاً، وهو ما نسعى إليه من خلال الأمانة العامة لدور الإفتاء وهيئاته في العالم.
لذا أطمئن الجميع إلى أن المؤسسات الدينية في مصر، وعلى رأسها الأزهر الشريف ودار الإفتاء ووزارة الأوقاف، ستبقى صامدةً في مواجهة هذه الأفكار، وستبقى حاملةً راية الوسطية، وتعمل بكل إخلاص لتوجيه المجتمع نحو صحيح الدين. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من دعاة الحق والعدل والسلام.
* في ظل سيطرة جماعات "الإسلام السياسي" والتيارات السلفية على المنطقة العربية منذ سبعينيات القرن الماضي، وما تلاها من حالة للصعود السياسي عقب أحداث 2011، ارتفعت وتيرة موجات الإلحاد بين الشباب المصري والعربي. هل ثمة دور فاعل لدور الإفتاء في التعامل مع مثل هذه الظواهر من خلال قاعدة واقعية على المستوى الفكري والنفسي والاجتماعي، من دون اتهام بالكفر أو التخوين أو الردة الدينية؟
الإلحاد ظاهرة تستحق الاهتمام الجاد والتحليل العميق، وبالفعل تأثرت فئة كبيرة من الشباب المصري والعربي بالتجاذبات السياسية والتغيرات الاجتماعية عقب صعود تيارات الإسلام السياسي، وهو ما تسبب بتشويش كبير لديهم حول مفهوم الدين والإيمان. فقد أدى الصراع على السلطة بين التيارات الإسلامية والحكومات عند كثير من الشباب إلى ربط الدين بمفاهيم القوة والسيطرة والسلطة والعنف، ما جعل الشباب يشعرون بأن الدين يُستخدم كأداة سياسية بدلاً من كونه وسيلة روحية وأخلاقية للتعايش والتكامل. كذلك، تسبب غياب الحوار العقلاني وإغلاق الأبواب أمام نقاشات حقيقية حول قضايا الإيمان والإلحاد بتنامي الشكوك، حتى صار البعض يلجأ إلى الإلحاد كتعبير عن رفضه للوضع القائم، وليس إنكارا لوجود الخالق سبحانه وتعالى.
الإلحاد يشكل تحدياً حقيقياً للنسيج الاجتماعي في المجتمعات العربية، ولا يعدّ مجرد ابتعاد عن الإيمان، بل يعكس حالة من انعدام الثقة بالقيم والأفكار السائدة، مما قد يؤدي إلى تفكك الروابط المجتمعية وتراجع الوازع الأخلاقي. ومع أن الإلحاد يعد خياراً فردياً، إلا أن انتشاره بين فئة الشباب يعكس أزمة اجتماعية عميقة تتطلب معالجة شاملة.
دار الإفتاء المصرية تدرك خطورة هذه الظاهرة وأهمية التعامل معها بأسلوب مختلف عن الأساليب التقليدية، حيث تبنت نهجاً يقوم على "الاحتواء الفكري" للشباب بدلاً من التصنيف بالكفر أو الردة. وقد خصصت دار الإفتاء إدارة خاصة أطلقت عليها اسم "إدارة حوار"، متخصصة بالتواصل مع الشباب الذين تساورهم الشكوك الدينية. ويعمل في هذه الإدارة باحثون متخصصون، على دراية بالعلوم العقلية والفكرية، يهدفون إلى تقديم نقاشات عقلانية مع الشباب المتأثرين بأفكار الإلحاد. ويتولى هؤلاء الباحثون الرد على الشبهات بطريقة منهجية تتيح للشباب فرصة للبحث والتساؤل من دون خوف من الإدانة أو الرفض.
وفي هذا السياق قدمت دار الإفتاء العديد من الكتب والدراسات التي تعزز اليقين الديني وتجيب عن الشبهات بطرق علمية تتناسب مع عقلية الشباب المعاصر. من ضمن هذه الإصدارات، كتب موجهة للأطفال والشباب تهدف إلى بناء أساس فكري قوي منذ الصغر، وتعليمهم القيم الدينية بطريقة تتناسب مع أعمارهم واهتماماتهم.
وتستعين دار الإفتاء في كثير من وحداتها ولا سيما الوحدات ذات الطابع الفكري، بفريق من الخبراء المختصين في علم النفس والاجتماع، لدراسة الظاهرة وفهم العوامل النفسية والاجتماعية التي تدفع الشباب إلى الإلحاد، ومن ثم وضع استراتيجيات علاجية تتناسب مع طبيعة هذا الجيل.
ولم تعد الدار تعتمد فقط على الخطاب الديني التقليدي، بل باتت تستخدم الوسائط المتعددة كالفيديوات القصيرة والمقالات المبسطة عبر الإنترنت، لتصل إلى فئة أوسع من الشباب في منصات التواصل الاجتماعي.
* في ظل الدور الأمني البارز في تحجيم الجماعات الأصولية المتطرفة وتفكيك هياكلها التنظيمية، لماذا لم تبادر دار الإفتاء المصرية باعتبارها ممثلًا للمؤسسة الدينية الرسمية، إلى طرح مشروع فكري متكامل تتشارك فيه مختلف مؤسسات الدولة الوطنية، لتفنيد الأطروحات الفكرية والأيديولوجية للجماعات المتشددة وروافدها التي لا تزال تتحصن بالحواضن الشعبية؟
- على العكس تماماً. جميع المؤسسات الدينية المصرية، ومن بينها دار الإفتاء المصرية، تعمل وفق خطط محددة في نطاق اختصاصاتها وحدود عملها، في تفنيد الأطروحات الفكرية والأيديولوجية للجماعات المتشددة، ويكمل بعضها بعضاً. وزارة الأوقاف مثلا تنشط في الجانب التطبيقي للخطاب الديني، ودار الإفتاء تقوم بدور محوري في مجالات الفقه والفتوى، وكلاهما يستلهم الفكر والفلسفة والدعم من الأزهر الشريف، الذي يُعد المرجعية العليا في الشأن الديني.
ثم إن دار الإفتاء المصرية لا تعمل بمعزل عن بقية مؤسسات الدولة الدينية والمدنية، فطبيعة العمل المؤسسي والحكومي تقتضي التعاون والتكامل، وكل مشاريع دار الإفتاء يتم التعاون فيها مع الجهات والمؤسسات الدينية والمدنية. وكما ذكرت قبل ذلك، إن الدار في العقد الماضي قامت بتطوير أدائها في شكل كبير، من خلال الكم الهائل من الإصدارات والندوات والمؤتمرات، وبإذن الله أهدف في هذه الفترة إلى زيادة المحتوي الفقهي الرقمي على شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
وأكرر أن مواجهة الفكر المتطرف ليست مسؤولية جهة واحدة، أو المؤسسات الدينية وحدها، بل هي جهد مشترك يتطلب التكاتف بين جميع مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، ليصبح لدينا خطاب ديني يساهم في بناء مجتمع آمن ومستقر، يخلو من التشدد والعنف.
* الذاكرة التاريخية لتيارات الإسلام السياسي والجماعات الأصولية، تنذر بقدرتها على العودة مجدداً والاستفاقة من حالة "الكمون التنظيمي"، في ظل توظيف وسائل "الذكاء الاصطناعي" على منصات التواصل الاجتماعي لتحقيق الاستمالة الفكرية. هل تملك دار الإفتاء الأدوات العلمية والمعرفية والتكنولوجية الحديثة للمواجهة المرتقبة مع هذه الجماعات المتشددة، في ظل التوظيف المتعمد حالياً للقضية الفلسطينية في بناء جيل جديد يؤمن بالمشروع الفكري لهذه الجماعات؟
- بالفعل، عند اشتداد القبضة الأمنية على الجماعات المتشددة والمطرفة في بلد ما، تلجأ هذه الجماعات إلى "الكمون التنظيمي"، فتقلل من نشاطها الظاهر، أو قد يمارس أعضاؤها ما يشبه "التقية" في إخفاء نياتهم الحقيقية عن المجتمع والدولة، في انتظار فرصة للعودة إلى المشهد.
ومع ذلك، فإن أي نجاح لهذه الجماعات في العودة إلى تصدر المشهد لن يكون إلا في حالتين: الأولى فراغ الساحة الروحية والدينية في المجتمع من الخطاب والتربية الوسطية، بحيث تغيب الأصوات المعتدلة ويخلو المشهد من الإرشاد الديني الصحيح، فتتمكن الأفكار المتطرفة من الاستغلال والنفوذ. أما الحالة الثانية، فهي التساهل الأمني في التعامل مع من يروجون لخطابات العنف والكراهية، وهو ما قد يعطي لهذه الجماعات مساحة للتحرك والتنظيم. لكن كلا الحالتين، بفضل الله، يصعب تحققهما في الوقت الراهن، فالشعوب العربية والإسلامية تلقت دروساً قاسية ومؤلمة نتيجة التسامح أو التغاضي عن هذه الكيانات المتطرفة، ولا تزال بعض البلدان حتى اللحظة تعاني ويلات هذا التسامح معها.
وفي هذا الصدد، فإن دار الإفتاء المصرية تسعى بجدية إلى مواجهة هذه الأفكار المتطرفة أيضا في طور كمونها، قبل أن تتمكن من الظهور مجدداً. حيث تعمل الدار على إعداد خطة مراجعة فكرية تستهدف قادة هذه التنظيمات ومنظريها، خصوصا داخل السجون، لضمان تصحيح المفاهيم الخاطئة ومكافحة الفكر المتشدد في مراحله الأولى.
وفي ما يتعلق بالتحديات التي تفرضها التقنيات الحديثة، كالذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل الاجتماعي، فنحن ندرك تماماً أن الجماعات تستخدم تلك الوسائل في نشر أفكارها واستمالة الشباب. ولهذا، قامت دار الإفتاء المصرية بتطوير وسائلها العلمية والتقنية لمواجهة هذه التحديات، فوسعت الدار حضورها على منصات التواصل الاجتماعي وأطلقت منصات متخصصة تتناول القضايا التي تستغلها الجماعات المتطرفة، وطورت العديد من التطبيقات الذكية ومنصات الفتاوى الإلكترونية التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، لتكون في متناول الشباب وتعزز قدرتهم على الوصول إلى المعلومة الدينية الصحيحة بسهولة.
وأخيرا، نعي تماماً أن الجماعات المتشددة تستغل بعض القضايا الحساسة، كالقضية الفلسطينية، لتجنيد جيل جديد يؤمن بمشروعها الفكري، ولهذا تعمل دار الإفتاء المصرية على إبراز الدور الحقيقي للدين في دعم القضية الفلسطينية، بعيداً من أي استغلال أيديولوجي يهدف إلى العنف والتطرف، ويؤكد دعم الحق والمظلومين بالطرق المشروعة والسلمية. وقد رأينا جميعاً الحجم الهائل لقوافل الإغاثة التي أطلقها الأزهر الشريف، وبقية مؤسسات الدولة، ورأينا أيضا الخطاب المعلن لفضيلة الإمام الأكبر في ما يتعلق بالحصار، والحرب على الفلسطينيين العزل.
* مختلف المرجعيات الفكرية للجماعات المتطرفة في تنظيراتها الفقهية، قدمت "الانتماء الديني" على "الانتماء الوطني"، معتبرة أن الولاء للعقيدة أولى من الانتماء إلى التراب والأرض. كيف ترون ذلك من واقع الدور المنوط بدار الافتاء في تصحيح المفاهيم بما يعزز قيم الانتماء الوطني؟
إن دار الإفتاء المصرية تؤمن بأهمية تصحيح المفاهيم الخاطئة التي تروجها الجماعات المتطرفة حول مفهوم "الانتماء الديني" وتقديمه على "الانتماء الوطني"، إذ تستغل هذه الجماعات الفهم السطحي والمغلوط لهذا المفهوم لترويج فكرة أن الولاء للعقيدة يجب أن يكون أولى من الانتماء إلى الوطن، معتبرين أن الوطن والأرض "عصبية جاهلية" لا قيمة لها في ضوء "الوطن الديني".
إلا أن من يتأمل في القرآن الكريم والسنة النبوية يجد عكس ذلك تماماً. فالنصوص الإسلامية تحمل تصوراً متكاملاً للهُويات، حيث اعترف الإسلام بالهويات المتعددة كالمهاجرين والأنصار، وأعطاهم هويات خاصة ومكانة متميزة من دون أن يتعارض ذلك مع الانتماء الديني العام. قال الله تعالى في وصف المهاجرين: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [آل عمران: 195]، هنا أشار إلى هوية المهاجرين وفضلهم، كما أثنى على الأنصار بقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر: 9]، وفي هذا دلالة على أن الانتماء إلى الوطن لا يتعارض مع الإسلام، بل هو جزء من الفطرة الإنسانية. فالقرآن والسنة أقرّا بهوية المهاجرين والأنصار ولم يسعَ الإسلام إلى طمسها، ما يدل على اعتراف الدين بهويات الناس وانتماءاتهم القُطرية والقَبَلية.
ونرى كذلك في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم حرصه على الوطن وحبه لبلده، فقد ورد في الحديث الشريف أن النبي دعا بقوله: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة وأشد حباً". وهذا دعاء صريح بأن محبة الأرض والوطن أمر مشروع، ويبيّن أنه شعور فطري لا ينافي الولاء الديني؛ فالنبي كان بوسعه أن يكتفي بالدعاء لجميع البلاد، ولكنه اعتدّ بحب مكة والمدينة، وهو ما يعكس احترام الإسلام للهوية الوطنية التي ترتبط بالأرض.
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم واجه العصبية الجاهلية لا الهوية القبلية أو الوطنية نفسها، فقد رفض التعصب الأعمى الذي يثير الفتن ويهدد السلم المجتمعي، كما حدث في قصة التنازع بين الأوس والخزرج الذي كان على وشك تجديد العصبيات الجاهلية، حيث قال لهم النبي: "أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية". فهو ينبه إلى أن التعصب هو المذموم، أما الانتماء القبلي أو الوطني كهوية فهو مقبول ومُقَرٌّ ما دام بعيداً عن العصبية.
بذلك فتقديم "الانتماء الديني" و"الانتماء الوطني" في صورة إقصائية متناقضة يعدّ فهماً مغلوطاً لمقاصد الإسلام، باعتبار أن الإسلام يدعو إلى وحدة الأمة والحفاظ على الروابط الطبيعية التي تنشأ بين أفراد المجتمع، كالروابط العائلية والقَبَلية والوطنية، من دون تعصب. ومن هنا نؤكد أن مفاهيم الوطنية والقومية والعروبة ليست من باب العصبية المذمومة، بل هي أدوات للتآلف والتعاون نحو المصلحة العامة.
ومن هذا المنطلق، تعمل دار الإفتاء المصرية على تصحيح هذه المفاهيم عبر نشر التوعية بمفهوم الانتماء الوطني، وتؤكد أن الوطن جزء أصيل من هوية المسلم، وأن الحفاظ عليه والعمل على استقراره من جوهر تعاليم الإسلام. فالوطنية والقومية والعروبة ليست مؤامرات تُحاك ضد الإسلام، بل هي مفاهيم تعزز وحدة المجتمعات وترسخ قوة الأمة الإسلامية في مواجهة التحديات.
وتحرص دار الإفتاء على توجيه الرسائل الإعلامية والتربوية من خلال البرامج والنشرات ومواقع التواصل الاجتماعي، وتشارك في الندوات التي توضح مفاهيم الولاء الوطني، وتبرز أن هذه المفاهيم لا تتعارض مع العقيدة الإسلامية، بل تدعمها وتكملها. كما تعمل الدار على تصحيح الشبهات التي تنشرها الجماعات المتطرفة حول هذه القضايا، وتقدم خطاباً متوازناً يربط بين الاعتزاز بالدين والاعتزاز بالوطن، ويوضح أن الانتماء إلى الأرض التي يعيش فيها الإنسان واجب ديني ودنيوي، في إطار الوحدة التي تجمع بين الانتماء إلى الدين والأمة والوطن.
* هل ثمة مشاركة تفاعلية لدور الافتاء المصرية مع المؤسسات الأوروبية في تصحيح صورة الإسلام في العالم الغربي في مواجهة ما يعرف بظاهرة "الإسلاموفوبيا" في ظل تمدد الجماعات الأصلية والإسلام العنيف، فضلًا عن تصاعد اليمين المتطرف في الدوائر المجتمعية؟
ظاهرة "الإسلاموفوبيا" من أخطر التحديات التي تواجه المسلمين في الغرب، حيث أدى تصاعد الخطابات المتطرفة من الجماعات الأصولية، إلى جانب تنامي حركات اليمين المتطرف، إلى نشر صورة مغلوطة تربط الإسلام بـالعنف والتشدد والتخلف العلمي والحضاري، وتكمن خطورة هذه الظاهرة في كونها تؤدي إلى التمييز العنصري ضد المسلمين، وتهميشهم، وارتكاب جرائم بحقهم، بل وتغذية الأحقاد والكراهية بين أبناء الشعب الواحد، مسلمين وغير مسلمين.
ودار الإفتاء المصرية تسعى من خلال ذراعها الدولية المتمثلة في الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم إلى بناء جسور التواصل والحوار بين الأديان والثقافات، وتعزيز التعاون المشترك لمواجهة التطرف والعنف، بهدف تصحيح الصورة النمطية عن الإسلام في الغرب، وتوضيح قيم الإسلام السمحة، وتاريخه المشرق، وتُقدم دار الإفتاء المصرية كل أوجه الدعم اللازم للجاليات المسلمة في الخارج، لتساعدها على التكيف مع المجتمعات الجديدة، وحفظ هويتها الدينية والثقافية. وتتعاون في هذا الصدد مع المؤسسات الدولية والإقليمية المعنية بحقوق الإنسان والحوار بين الأديان.
ورغم التحديات الكبيرة مثل تمدد الجماعات المتطرفة وارتفاع وتيرة الخطاب المتطرف في الغرب، فإن الأمانة العامة ودار الإفتاء مصرّتان على مواصلة جهودهما، إيماناً منهما بأهمية الحوار والتعايش، وأنهما حق للجميع بلا تمييز أو عنصرية أو إقصاء.