بينما كان العالم مشحوناً بالقلق أثناء جائحة كورونا، اختارت إسراء بدوي اللجوء إلى واحة سيوة النائية. سافرت وحدها إلى أقصى غربي مصر، على بُعد 740 كيلومتراً من القاهرة. كانت تلك زيارتها الأولى، لكن بعد أن مسّها سحر الواحة، لم تُصبح الأخيرة، بل باتت في غضون أربع سنوات من الفاعلين البارزين في المجتمع السيوي.
ورغم عملها مهندسة معمارية، كانت سيوة دافعاً مُلهماً لإسراء لتعلّم حرفة جديدة؛ حيث أتقنت صناعة الخزف، ثم أسست مشروع "ضُليلة" لتعليم الأطفال هذه الحرفة.
يوم حلمت إسراء
التقت "النهار" صانعة الخزف المصرية في ورشة "ضُليلة" في واحة سيوة، وروت خلال حديثها لنا: "في عام 2020 وأثناء جائحة كورونا، قررت ذات يوم ألا أذهب للعمل وسافرت إلى سيوة، التي كنت مغرمة بها لكونها نائية ولا تزال تحافظ على هويتها".
وتقول: "هناك تجولت في كل أنحاء الواحة، وفي أحد الأيام عثرتُ صدفةً على أوانٍ فخارية قديمة. علمتُ من أحد السكان أن ابنته هي من صنعتها".
تُعلم إسراء بدوي أطفال سيوة حرفة الخزف
وتتابع: "رغم تراجع حرفة الفخار في الواحة، لفت انتباهي أن بعض الأطفال لا يزالون يمتلكون مهارة فطرية في تشكيل الطين وصناعة الأواني الفخارية، فتساءلت: لماذا لا يحظى هؤلاء بفرصة للتعلم؟ ومن هنا قررت إحياء تجربة الفنانة السويسرية إيفلين بوريه مجدداً في واحة سيوة".
ويذكر أن إيفلين بوريه هي فنانة سويسرية عاشت في قرية تونس بمحافظة الفيوم، وبعد أن لاحظت أن أطفال يصنعون الألعاب من الطين، فقررت تعليمهم صناعة الخزف، وأسست مركزاً لتعليم هذه الحرفة، مما حول القرية إلى مركز عالمي لها".
عادت إسراء بدوي إلى القاهرة بطموحٍ كبير، فقررت تعلُّم صناعة الفخار والخزف. وبدأت رحلتها بالتعلُّم الذاتي لمدة عام، ثم انضمت إلى مؤسسة "بيت جميل" لاستكمال معرفتها وتدريبها.
وفي عام 2022، حصلت على منحة الحرف التراثية التابعة لمدرسة الأمير تشارلز في بريطانيا بالتعاون مع "بيت جميل"، واستمرت دراسة هذه المنحة لمدة عامين في القاهرة، تخصصت خلالها في صناعة الخزف.
بعد رحلتها مع التعليم والتدريب، ازدادت ثقة إسراء بقدرتها على تعليم أطفال سيوة صناعة الخزف، فقررت بدء رحلتها في الواحة النائية.
يتعلم الأطفال جميع مراحل صناعة الخزف
في عام 2022، بدأت إسراء بدوي مشروعها الرائد في سيوة، حاملةً معها حرفةً جديدةً على الواحة: الخزف. فبينما اشتهر سكان الواحة بصناعة الفخار، مُبدعين قطعاً فنيةً تراثية مثل الأواني المزخرفة والأباريق التقليدية، إلا أن هذه الحرفة أُهملت مع موجات الحداثة، واقتصرت على الجدات.
أثار انزواء حرفة الفخار فضول إسراء، وكان حافزها لتأسيس مشروع "ضُليلة"، وتقول إنها تستهدف منه تعليم الأطفال الخزف مجاناً، وصناعة منتجات مستوحاة من التراث السيوي، لكن لماذا اختارت بدوي تعليم الخزف تحديداً للأطفال؟
تشير بدوي إلى أن سكان سيوة اعتادوا صناعة الفخار من المواد الخام الموجودة في البيئة المحيطة، مثل الطين الخشن المتوفر في الحقول وفي الجبال، وبالتالي اقتصرت الحرفة على صناعة منتجات بسيطة بتقنيات قديمة وجودة ضعيفة.
طفلان مشاركان في المشروع
في المقابل، استهدف مشروع ضُليلة تطوير حرفة الفخار لإنتاج الخزف، الذي يتطلب مواد خام أعلى جودة وتقنيات حرق للطين مختلفة؛ لتصنيع منتجات خزف وظيفية تستخدم بشكل رئيسي في الحياة اليومية، يمكن تسويقها وبيعها بثمن أعلى.
وعادةً ما يُصنع الفخار أو الخزف من الطين، ثم يُشكل ويُحرق في الفرن ليكتسب الصلابة. الفرق بينهما يكمن في أن الفخار التقليدي لا يُزجج، بينما يُزجج الخزف بعد أن يحرق مرة أخرى في الفرن.
منذ عام 2022، مر "ضُليلة" بأكثر من مرحلة؛ إذ استهدف تدريب الأطفال خلال شهور فصل الصيف، بعيدًا عن مواعيد الدراسة وموسم الحصاد الذي يبدأ في الخريف.
ويتعلم الأطفال جميع مراحل صناعة الخزف، بدايةً من تشكيل الطين وحتى دخول المنتجات الفرن وخروجها لتعرض طوال العام أمام السياح والزوار في معرضٍ فريدٍ من نوعه يقام في قلعة شالي الأثرية، على ما تقول إسراء.
عرض منتجات الأطفال أمام زوار الواحة في معرض دائم
وتُشير إلى أن "الأطفال يمارسون العمل على صناعة الخزف مرتين في الأسبوع، ويحصلون على نسبة من مبيعات المنتجات؛ لتشجيعهم على الاستمرار في هذا العمل".
وعن الدعم الذي تلقاه المشروع، توضح بدوي أن "ضُليلة" حظي بدعم منحتين، إحداهما من مؤسسة نهضة المحروسة، ومنحة أخرى من معهد جوته في القاهرة، لافتةً إلى أنها تستهدف على المدى البعيد صناعة منتجات سيوية تحمل روح الواحة وتراثها، لكن بجودة عالية تسهل من تسويقها وتصديرها إلى كل دول العالم.
وتختتم إسراء حديثها لـ"النهار" مؤكدةً أن تعليم الأطفال الخزف في "ضُليلة" يُسهم في إعادة إحياء حرفة الفخار بشكل أكثر تطوراً. "الأطفال يمتلكون موهبةً فطريةً لم تتلوث بعد، وبإمكانهم إحياء الحرفة كما حدث في نموذج قرية تونس".