في عام 2019، أغلقت واحدة من أشهر أسواق "الدارك ويب"، وهي "دريم ماركت"، إثر حملة شنتها وكالات أمن دولية، ألقت خلالها القبض على عشرات المتعاملين مع هذه "السوق السوداء".
السوق التي تم إنشاؤها عام 2013، ظهرت بعد إغلاق أكبر أسواق "الدارك ويب" آنذاك، وهي "سلك رود"، بعد اعتقال عملاء مكتب المباحث الفيدرالية الأميركية (FBI) لمؤسسه روس أولبريخت.
أنشأ أولبريخت "سلك رود" عام 2011، وهو عام كان يعج بالتوترات السياسية والحروب: في أفغانستان، والقوقاز، وأميركا اللاتينية، وأفريقيا، ولا سيما منطقة الشرق الأوسط، التي غمرتها "ثورات الربيع العربي"، وشهدت نشاطاً كبيراً وتوسعات لتنظيمات إرهابية مثل "داعش" و"القاعدة" وغيرهما.
إحدى أسواق الدارك ويب تعرض خدمة استخراج هويات وجوازات سفر مزورة - (النهار)
قد تحتاج الكيانات غير النظامية، مثل "داعش"، أو حتى القوى النظامية التي تخضع لعقوبات دولية- الى جلب مستلزماتها بطرق سرية وغير مشروعة، وهو ما توفره "الأسواق السوداء"، كما أنها تتيح مجالاً لتصريف ما يتم نهبه أو الاستيلاء عليه خلال الحرب. ومن ثم، فإن فترات الحروب ربما تعد فرصة ذهبية لأسواق "الدارك ويب".
فرص جديدة
ما بين عامي 2022-2024، نشبت صراعات متتالية، بداية من أوكرانيا وصولاً إلى السودان، ثم غزة، ولبنان، وسوريا، واليمن، والعراق، كما تزايدت التوقعات باندلاع حرب إقليمية شاملة نتيجة التوترات بين إسرائيل وإيران.
استخدمت "النهار" أدوات استخبارات المصادر المفتوحة (OSINT)، وبرامج مخصصة للدخول إلى "الدارك ويب"، للاطلاع على ما يجري، كما تحدثت لخبراء للتحقق مما إذا كان ثمة علاقة مؤكدة بين الحروب وانتعاش أسواق "الدارك ويب"؟
إحدى أسواق الدارك ويب تتيح استئجار "هاكرز" للقيام بمهام محددة - (النهار)
وخلال عمليات البحث، اتضحت مفاجآت عدة، منها عودة "دريم ماركت" بنسخته جديدة (Dream Market v2)، وكذلك "سلك رود 4”، وهو المحاولة الرابعة لإعادة سوق أولبريخت للحياة، بعد محاولتين إحداهما قام بها خلفاؤه بعد أيام من اعتقاله، لكنها أحبطت على الفور. كما ظهرت أخيراً أسواق جديدة نشطة ومتفاوتة في حجمها وتخصصاتها.
سوق "سلك رود 4" من الداخل - (النهار)
روابط مؤكدة
يقول استشاري الجرائم السيبرانية وأمن المعلومات بالأمم المتحدة الدكتور محمد الجندي لـ"النهار": "هذه الأسواق تنشط بشكل ملحوظ في أوقات الحرب، وتتزايد أعداد المجرمين عليها، وتتنوع الجرائم التي ترتكب بها".
ويضيف الاستشاري الدولي: "من الجرائم التي توجد على الإنترنت المظلم، الاتجار بالبشر، وبيع البيانات التي تتم سرقتها خلال الحروب وعمليات الاختراق الإلكتروني، وبيع جوازات السفر المزورة التي تسهل انتقال المهاجرين غير الشرعيين".
ويلفت إلى أن "الشبكات المغلقة مثل "تور" لا تستخدم فقط في الأعمال الإجرامية، ولكن تستخدم في أعمال قانونية، إلا أن قدر التخفي التي توفرها يجعلها وسيلة مثالية يستخدمها المجرمون في أعمالهم غير المشروعة".
الدكتور محمد الجندي
بيئة مزدوجة
ويقول خبير أمن المعلومات المهندس محمد بركات لـ"النهار": "قد تستخدم الأطراف المتحاربة أسواق "الدارك ويب" في الحصول على عناصر مقاتلة، أو سلاح الخ. وقد يستخدمها أفراد مثل الهاكرز لتنظيم صفوهم دعماً لأحد الأطراف".
ويستدرك: "أنه يستخدم كذلك لتوفير ضروريات إنسانية لمدنيين يحتاجون لمأوى آمن أو طعام أو دواء... احتياجات لا يحصلون عليها بالطرق الطبيعية. هذا يبرز دور "الدارك ويب" كبيئة مزدوجة للخير والشر".
المهندس محمد بركات
أموال هائلة
تكنولوجيا "الأسواق السوداء" باتت أكثر تعقيداً، ما يؤكده ضابط سابق بأحد الأجهزة الاستخباراتية العربية لـ"النهار". ويقول: "ثمة سباق لا يتوقف بين أجهزة الأمن، والعصابات الإجرامية. حين نتمكن من اختراق تقنية لديهم، يبتكرون أخرى أكثر تعقيداً".
لاحظت "النهار" دليلاً بسيطاً يوضح ذلك التطور: العملات المشفرة هي الوسيلة الرئيسية للتعامل في "الدارك ويب"، وظلت بتكوين (BTC) لوقت طويل الأكثر استخداماً، نظراً لاعتقاد ساد بأنها تحفظ هوية مستخدميها، لكن تبين لاحقاً أنه تصور غير دقيق.
توفر خدمة "الضمان" المزيد من التخفي لأسواق دارك ويب ومستخدميها - (النهار)
وبالبحث على منتدى "بتكوين توك" وموقع "رديت" ومحركات بحث على "الدارك ويب"، توصلنا إلى ثلاثة عناوين تخص محافظ "سلك رود" القديم، والتي كان قد أحاط مصيرها الغموض بعد القبض على أولبريخت، الذي يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة في أميركا.
وتأكد لنا، من البيانات المتوفرة على أحد متصفحات "سلال الكتل" (Blockchain explorers)، أنها بالفعل تتبع "سلك رود"، وتضم عشرات الآلاف من عملة بتكوين، وكان أكبرها وأهمها يحتوي على 111,114 بتكوين، قبل أن يتم سحبها تدريجياً في عام 2018.
وقيمة تلك العملات كان يوازي 1 مليار دولار أميركي في ذلك الوقت. أما بأسعار اليوم، ومع اقتراب سعر بتكوين إلى 100 ألف دولار، فإن قيمتها تتجاوز 11 مليار دولار.
آخر العمليات التي تمت في إحدى محافظ بتكوين الخاصة بسوق "سلك رود" القديمة - (النهار)
تخفٍ إضافي
وكان من الصعب أن نتحقق من حجم معاملات أسواق "الدارك ويب" الحالية، لأنها طورت وسائلها. على سبيل المثال، يستخدم "دريم ماركت" حالياً عملة مونيرو (XMR)، وهي توفر حماية لهوية المتعاملين عليها، ولا تعرض أي معلومات عن المعاملات الخاصة بهم، في حين أن "سلك رود 4” لا يزال يستخدم بتكوين، لكنه يمنح كل مستخدم عنوناً جديداً خاصاً به، ما يحمي عنوان محافظه الرئيسية من التتبع.
كذلك ثمة خدمات وسيطة تدعى "الضمان" (escrow)، تقوم بالدور الذي تلعبه شركات مثل "فيزا" و"ماستركارد" كوسيط في عملية الدفع بين البائع والمشتري، ولكن "الضمان" تعمل في أعماق الويب، وتتعاطى مع العملات المشفرة فحسب.
تقدم الكثير من أسواق الدارك ويب خدمة التوصيل لأي مكان في العالم - (النهار)
وإلى جانب هذا، فإن ثمة أسواقا لتبادل العملات الرقمية خاصة بهذا العالم الموغل في التخفي، وبالطبع لا تخضع للرقابة ولا لقوانين مكافحة غسيل الأموال.
وهذا كله يجعل من الصعب التحقق من حجم التعاملات في أسواق "الدارك ويب" الحالية. لكن بالقياس على أرصدة "سلك رود" من بتكوين، وحجم السلع والخدمات والموردين المتعاملين في الأسواق الراهنة، وكذلك المعلومات التي تنشرها أسواق مثل "تور باي" الذي يضم 36 ألف عميل و200 بائع حول العالم -وهو ليس سوقاً كبيراً- وبعض بورصات تبادل العملات مثل "اكتش" التي يبلغ متوسط تعاملاته يومياً قرابة 55 مليون دولار (أي قرابة 20 مليار دولار سنوياً)، يمكننا القول بثقة إن تعاملات "الأسواق السوداء" تقدّر بعشرات مليارات الدولارات، وتنعشها الحروب والصراعات، على ما أكد الخبراء.