للمرة الأولى منذ بدء الحرب قبل عام ونصف، تمكن الجيش السوداني من تحقيق اختراقات واسعة في قلب العاصمة الخرطوم، مستفيداً من الجسور الواصلة بين مدن العاصمة الثلاث، ما مكّنه من تحقيق ربط بين منشآته العسكرية الواقعة تحت حصار قوات الدعم السريع، وسط أسئلة عن سبب انتظار القوات النظامية كل هذه المدة قبل الهجوم الأخير.
فمنذ أكثر من أسبوع تقريباً، تشهد العاصمة تحركاً ميدانياً واسعاً بعد اختراقين: الأول تمثل في عبور القوات المسلحة جسري النيل الأبيض والفتيحاب، وذلك عند منطقة المقرن، وهي نقطة التقاء النيلين الأبيض والأزرق وسط العاصمة، ما مكّنه من الاقتراب للمرة الأولى من مبان استراتيجية مثل البنك المركزي وبرج الساحل والصحراء، فيما تقول مصادر ميدانية لـ"النهار" إن منطقة السوق العربي، وهي بمثابة الوسط التجاري للخرطوم، باتت مسرح عمليات مكثف، لا سيما أنها تقود الى مقر القصر الجمهوري ومبنى رئاسة الوزراء.
أما الاختراق النوعي الثاني، فتمثل في عبور جسر الحلفايا شمال مدينة بحري، على الضفة الشرقية للنيل، حيث التقت قوات تابعة لمعسكر الكدرو شمال شرقي المدينة بأخرى قادمة من أم درمان على الضفة الغربية، ما يعني أن الجسر الوحيد الذي يربط بين المدينتين بات في قبضة الجيش. وتقول المصادر إن مواجهات شرسة تدور في محور مصفاة الجيلي النفطية، بعدما وصلت تعزيزات من معسكر الكدرو المجاور، وكذلك من جهة شندي شرق المنطقة في ولاية نهر النيل. وسيقود توسيع نطاق السيطرة جنوباً باتجاه أحياء الدروشاب وشمبات، إلى تقدم سريع في المدينة التي تعد الثقل الصناعي للسودان. يضاف إلى ذلك عزل بقايا قوات الدعم المتمركزة في محيط سلاح الإشارة قرب النيل الأزرق، وهي النقطة التي تعد الحامية الأساسية لمبنى القيادة العامة للجيش على الجانب المقابل للنيل. وكان لافتاً أن العملية العسكرية الأخيرة جرت بالتزامن مع لقاء قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في نيويورك مسؤولين أميركيين، قبل أن يلقي كلمته في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ويعود مسرعاً في اليوم التالي إلى السودان، حيث بث ناشطون لقطات له مرتدياً البزة العسكرية ومتنقلاً في قاعدة وادي سيدنا الجوية والفرقة الثالثة مشاة في شندي.
كلمة السر: جسور النيل
يرى الخبير الميداني محمد عادل أن إدراك الجيش أهمية الجسور في معارك الخرطوم جعل من التحرك الأخير الأكثر أهمية، ويقول لـ"النهار": "لمعركة الخرطوم قاعدة ذهبية عنوانها: من يمسك بالجسور يمسك بمفاتيح العاصمة، ومع استعادة السيطرة على جسري السلاح الطبي والفتيحاب وكذلك الحلفايا، تصبح مسألة تطويق الدعم السريع وعزله عن باقي طرق الإمداد أكثر سهولة".
ولكن كيف تتجسد أهمية هذه الجسور؟
يقول عادل إن معظم المواقع العسكرية والاستراتيجية تقع بالقرب من النيل، وعبر الممرات الواصلة في ما بينها. فجسر النيل الأبيض يقود إلى المقرن وسط الخرطوم، والتي تعتبر بوابة للبنك المركزي والوسط التجاري، وتمتاز بأبنية عالية يتمركز القناصة فيها بسهولة، أما ضفتها الثانية فقريبة من مقر السلاح الطبي. ويضيف: "الأمر ذاته ينطبق على جسر الحديد أو النيل الأزرق الذي يربط مقر القيادة العامة بسلاح الإشارة، أما جسر الملك نمر فهو صلة الوصل بين الخرطوم وبحري، ولطالما عمد الجيش إلى قطع الجسور خلال التظاهرات منعاً لأي أعمال تمرد متوقعة".
وبالحديث عن الهدف التالي، يعتبر الناشط الميداني عبد الرزاق ود سيد أحمد أن عزل المدن الثلاث: الخرطوم وبحري وأم درمان عن بعضها بعضا، يساهم مساهمةً كبيرة في تقسيم كل منها إلى مربعات تتحرك من خلالها القطع العسكرية المحاصرة. ويشرح لـ"النهار": "مع التقدم من جهة المقرن وفك الحصار عن القيادة العامة، سيعني ذلك أن وسط الخرطوم وشرقها سيشهدان عزل مقاتلي الدعم السريع. أما جنوباً، فيتمكن سلاح المدرعات من التقدم أسرع لتأمين جنوب العاصمة في أحياء الصحافة وجبرة والكلاكلة، ويسمح ذلك باستنزاف الدعم واستنفاد ذخيرته بانتهاء عملية أوسع نطاقاً".
لماذا انتظر الجيش كل هذه المدة للتحرك؟
تكشف مصادر متابعة لـ"النهار" أن الجيش عانى نقصاً حاداً في الذخيرة والعتاد النوعي منذ بداية العام، وهو ما يفسر بطء العمليات القتالية، إذ إن آخر مواجهة تمكن الجيش من حسمها كانت في آذار (مارس) الماضي حين استعاد مقر الإذاعة في أم درمان، ولكنه إثر ذلك تعرض لسلسلة ضربات في ولاية الجزيرة وجنوب كردفان وغربها وصولاً إلى ولاية سنار. وبحسب المصادر، فإن الجيش تمكن أخيراً من شراء أسلحة جديدة عبر دول في أوروبا الشرقية لم تسمها. ونفت في الوقت نفسه أن تكون زيارة البرهان الصين قبل شهر قد لعبت دوراً في تدخل بكين عسكرياً في هذا السياق، كما نفت أن تكون اللقاءات الأخيرة بين وفود روسية وسودانية ذات طابع عسكري.