مرة جديدة لا تنجح المعارضة التونسية في اختبار الشارع، فقد عجزت خلال استحقاق الانتخابات الرئاسية في تحقيق نتائج مقنعة تؤكد وجود مخزون شعبي مؤيد لها في البلد الذي عاش قبل نحو 14 عاماً ثورة نقلته من حكم الحزب الواحد إلى مشهد تعدّدي تنشط فيه الأحزاب بكل حرية.
ومنذ حوادث 2011 تجاوز عدد الأحزاب في تونس الـ 200 حزب، لكنها رغم ذلك لم تنجح في الحصول على أكثر من نسبة 9 في المئة في الانتخابات الرئاسية مقابل فوز ساحق للرئيس قيس سعيد بنسبة بلغت حدود الـ 90 في المئة من مجمل المقترعين، الذين كانت نسبتهم متدنية ولم تصل إلى الـ 30 في المئة.
ويجمع التونسيون على أن خسارة المعارضة الانتخابات الرئاسية، ورغم كونها كانت متوقّعة، كانت هزيمة قاسية وهزة ستكون لها ارتداداتها على المشهد السياسي في تونس مستقبلاً وعلى المعارضة في الدرجة الأولى.
وعدا بعض المنشورات أو التصريحات لشخصيات معارضة أكدت أن هذه النتيجة هي نتيجة طبيعية لما سبق الانتخابات من "تضييق على الأصوات المعارضة" فقد التزم جل الأحزاب في الساعات التي تلت إعلان فوز سعيد بعهدة ثانية منذ الدور الأول الصمت، ما يطرح تساؤلات حول مصير المعارضة مستقبلاً وأيّ خيارات أمامها؟
مراجعة واستقالة
ولسنوات طويلة كان أداء المعارضة في تونس محلّ انتقادات كبيرة طالت زعماءها وهم من الرعيل الذي عايش بورقيبة وبن علي واستمر بعد الثورة.
ويقول عدد من المراقبين إن هذا الجيل يتحمّل جزءاً من مسؤولية فشل المعارضة التي لم تنجح في استثمار مناخ التعددية ما بعد 2011.
ويقول الأستاذ الجامعي المدير العام السابق لـ"معهد الدراسات الاستراتيجية" طارق الكحلاوي إنّ أهمّ رسالة في سياق أيّ انتخابات هي نتائجها، ويرى في تصريح الى "النهار" أنّ هذه الانتخابات بعثت جملة من الرسائل الى المعارضة وعليها يمكن أن نقرأ الخيارات المتاحة أمامها.
ويوضح أن "المعارضة فشلت مرة أخرى في هذا الاختبار الانتخابي وفشل عرضها السياسي وهي اليوم أمام خيارات قليلة، فإما أن تتواضع وتقوم بعملية التقييم من خلال قراءة متمعّنة لهذه النتائج من الناحية النفسية والسياسية والاجتماعية وتقرّ بفشلها بعيداً عن التحجّج بتسلط السلطة وأن تفهم لماذا أخفقت، وإمّا أن تواصل المكابرة رغم هول الصدمة التي تلقتها أو تظلّ جامدة، وهذا ما يخدم مصلحة السلطة طبعاً"، وفق تعبيره.
وفي تقديره، فإن هذه المعارضة التي كانت عاجزة عن أخذ القرارات في الوقت المناسب ولا تصنع الأحداث مكتفية بملاحقتها والرد عليها، حتى أنها ظلت دون موقف واضح من الانتخابات الأخيرة، هل تشارك فيها أم لا؟ ومن هو مرشحها؟ مطالبة اليوم بالقيام بعملية مراجعة وعدم المكابرة من أجل فهم الرسالة الشعبية التي وُجّهت إليها "في شكل صفعة قوية".
ويلاحظ أن بعض الشخصيات السياسية يصرّ على الاستمرار رغم فشله الواضح من خلال رفض مشروعه السياسي وطريقة معارضته في كل مرة.
ويؤكد أن جيل السبعينات من السياسيين فشل في الحكم وفي المعارضة أيضاً، "نتحدث هنا عن جيل راشد الغنوشي وحمة الهمامي وأحمد نجيب الشابي، هؤلاء من المفترض بعد كل هذا أن يعلنوا تقاعدهم عن العمل السياسي لا التعبير السياسي لأنّ هذا حقّ مكفول للجميع".
ويضيف:"نظريّاً على هذه الأسماء التي شكّلت لعقود طويلة العمود الفقري للمعارضة أن تبتعد وتترك المجال لجيل جديد يتبنى طريقة فعل مختلفة وجديدة".
لكنّه يستدرك موضحاً أنّ هذا الاعتزال السياسي يظل نظريّاً لأنّ في المقابل هناك أزمة مزدوجة، "فالجيل القديم يرفض المغادرة رغم الفشل المتكرر وترك المكان لجيل جديد هو بدوره لا يريده أن يغادر رغم أنه يطلب ذلك باستمرار، وهو بدوره عاجز عن فرض نفسه كبديل والخروج من جلباب الجيل القديم".
إعادة بناء
وفي مقابل الإجماع على الهزيمة يعتقد بعض المراقبين أنّ انتخابات الأحد الماضي على قسوة هزيمتها ليست سوى "جولة في المعركة الكبرى للدفاع عن الديموقراطية في البلد" وستكون بداية لتشكّل مشهداً جديداً يبنى على تفاهمات وتوازنات جديدة.
وفي السياق يتحدّث الكاتب والمحلل السياسي سرحان الشيخاوي إلى "النهار" عن صنفين من المعارضة في تونس مستقبلاً، الأول سيكون داخل البرلمان، إذ يتوقّع أن تتغير الخريطة البرلمانية، ويمكن الحديث هنا عن كتلتين للمعارضة تضمّان النواب الداعمين للمرشحين للرئاسة، الأولى داعمة للمرشح الرئاسي رئيس حزب "حركة الشعب" زهير المغزاوي والثانية داعمة لمنذر الزنايدي الذي رُفض مطلب ترشحه للانتخابات.
ويشرح: "هنا يمكن الحديث عن كتلة بالمعنى التقني أي كتلة تضمن الحدّ الأدنى من عدد النواب المنصوص عليهم في النظام الداخلي لمجلس النواب أو مجموعة من النواب ينسّقون المواقف من دون أن تكون لهم كتلة معلنة رسميّاً. أمّا الثانية فتضمّ كل المكونات التي تتحرك خارج المربّع البرلماني وعلى رأسها الشبكة التي تشكلت أخيراً من عدد من الأحزاب والمنظمات وكانت لها تحركات في الشارع أخيراً.
ويختم مشدداً على أنّ باب المعارضة سيظلّ مفتوحاً لإعادة الهيكلة من الناحية الفكرية والتنظيمية "لأننا في فترة إعادة إنتاج لفكرة المعارضة بناء على الاصطفافات الجديدة التي تشكّلت في الفترة الانتخابية".