النهار

العلاج النفسي في لبنان: زيادة في الطلب واختلاف الكلفة وهجرة مستمرّة للاختصاصيّين
ليلي جرجس
المصدر: النهار
لا يمكن إنكار التطوّر الكبير الذي شهده المجتمع في نظرته إلى مجال الصحة النفسية بكلّ تشعّباته، لقد تخطّى المحرمات و"التابوهات" والصفات التي يطلقونها على كلّ من يزور معالجاً أو طبيباً نفسياً. هذه الوصمة التي سقطت مع تطور المجتمع يُقابلها عجز في مواصلة ما قد بدأه البعض.
العلاج النفسي في لبنان: زيادة في الطلب واختلاف الكلفة وهجرة مستمرّة للاختصاصيّين
الصحّة النفسية أولوية. (تعبيرية)
A+   A-
 
كشفت دراسة عن أن حالات الإصابة بالاكتئاب والقلق زادت في شتى أنحاء العالم، بأكثر من الربع في العام 2020 بسبب جائحة كورونا. وخلصت إلى أن الإصابات باضطراب الاكتئاب الحاد زادت بعد الوباء بـ53 مليون حالة عمّا كانت عليه قبل كورونا، فيما زادت حالات الإصابة باضطراب القلق بـ76 مليون حالة خلال العام 2020.
تكشف هذه الأرقام عن الآثار النفسية التي خلّفها الوباء، فماذا عن الأزمات الأخرى التي يتأرجح فيها لبنان منذ العام 2019 وحتى اليوم؟ 4 سنوات ويعيش اللبنانيون أزمات متتالية أدّت إلى ارتفاع في الاضطرابات النفسية لاسيّما الادمان، اضطراب ما بعد الصدمة، الاكتئاب والقلق.
وعلى اختلاف باقي الخدمات الصحيّة، زاد الطلب بشكل واضح على خدمات الصحة النفسية، كما أكّد أكثر من طبيب ومعالج نفسي في حديثه لـ"النهار"، وارتفعت كلفة المعاينة والعلاجات الدوائية التي لا تغطيها الجهات الضامنة. ولم ينجُ قطاع الصحة النفسية من تأثيرات الأزمة اللبنانية، زيادة الطلب على المساعدة يُقابلها عدم قدرة مالية على تحمّل تكاليف الجلسات النفسية والأدوية التي تختلف بين عيادة وأخرى، إلّا أنّها تبقى بالنسبة إلى فئة كبيرة من اللبنانيين "مرتفعة".
 
تستوجب حالات الانتحار التي سُجّلت في الفترة الأخيرة قراءة مفصّلة وعلمية للدوافع والمسارات التي أوصلت كلّ ضحايا الانتحار إلى هذه الخاتمة المأسوية. ولكن يتعذّر تحليلها من دون معرفة تفاصيل الحياة الشخصية من طفولته وحتى اليوم، وكيف أثّرت وتفاعلت بعض الصدمات التي عاشها على خياره، فعلينا أن نبحث عن زاوية أخرى كان يمكن أن تكون ملجأ لهؤلاء، من خلال الخضوع لجلسات نفسية أو حتى علاجات نفسية - دوائية.
 
لا يمكن إنكار التطوّر الكبير الذي شهده المجتمع في نظرته إلى مجال الصحة النفسية بكلّ تشعّباته. لقد تخطّى المحرمات و"التابوات" والصفات التي يطلقونها على كلّ من يزور معالجاً أو طبيباً نفسياً. هذه الوصمة التي سقطت مع تطور المجتمع يُقابلها عجز عن مواصلة ما قد بدأه البعض.
 
ما الذي اختلف اليوم؟ ما قبل الأزمة، كان العائق شخصياً حيث يواجه كثيرون صعوبة طلب المساعدة النفسية والالتزام بها، ولكن ما بعد الأزمة باتت المشكلة مادية رغم رغبة الفرد في البحث عن الدعم النفسيّ.
 
 
بشكل عام، لم تتراجع الجلسات النفسية أو الطلب على خدمة الصحة النفسية نتيجة الأزمة الاقتصادية، وإنّما على العكس في بعض الأحيان، وحسب المناطق، شهدنا زيادة عليها، وفق ما تؤكّده رئيسة نقابة النفسانيين في لبنان الدكتورة ليلى عاقوري الديراني.
 
برأيها،  ما اختلف اليوم، هو زيادة الطلب على الخدمات النفسية في المستوصفات أكثر من زيارة العيادات الخاصة، ناهيك عن هجرة الأدمغة والاختصاصيين في علم النفس والتي تركت فراغاً مهماً، حيث بقي عدد قليل من النفسانيين المتدربين بشكل جيد ووجود فئة من المتخرجين الذين لا يتمتعون بالخبرة الطويلة.
 
في لبنان، هناك حوالى 800 متخصّص في علم النفس مُسجل في وزارة الصحة، و600 مسجل في نقابة علم النفس، إلّا أنّ 40 في المئة منهم تركوا البلد.
 
إذاً، المشكلة متشعّبة وليست محصورة في مكان واحد، ومن بينها هجرة أصحاب الاختصاص ناهيك عن التعرفة التي تُشكّل بالنسبة إلى فئة كبيرة من اللبنانيين عائقاً لطلب العلاج أو متابعته.
 
وهذا ما تشدّد عليه ديراني: "لا يوجد تعرفة موحّدة، ولكن قبل الأزمة كانت كلفة الجلسة النفسية تتراوح بين 40 دولاراً إلى 100 دولار، أمّا اليوم فتعتبر تعرفة الـ 100 دولار نادرة جداً وكلفة الجلسات تتراوح بين 100 ألف ليرة في المستوصفات وصولاً إلى 80 دولاراً، حسب خبرة الاختصاصيّ والمنطقة التي يعمل فيها".
 
ومع ذلك، يحدّد كلّ اختصاصي ومعالج نفسي السعر مع مريضه، حيث يأخذ في الاعتبار وضعه الماديّ وظروفه. و"بالتالي لا يوجد تعرفة موحّدة للمعالج النفسي وتختلف بين مريض وآخر. إلّا أنّ معدّل كلفة الجلسة النفسية بشكل عام أصبح  بين 40 و50 دولاراً تقريباً".
 
 
وتشير ديراني إلى أننا "نشهد زيادة طلب على الخدمة النفسية مقارنة بالسنوات الماضية، وزيادة في معدل الاضطرابات النفسية مقارنة بالسابق مثل الاكتئاب، القلق واضطراب ما بعد الصدمة التي هي أعلى من النسب، وتعود للأزمات المتتالية التي عاشها لبنان في السنوات الأخيرة. والمشهد العام عند كثيرين يتمحور حول غياب الأمل والآفاق المسدودة وتراجع التعليم وغياب النظرة للمستقبل".
 
تتفق الطبيبة النفسية الدكتورة هبة يعقوب مع ديراني، فبرأيها: "ليس هناك تراجع في عدد الزيارات، إلّا أنّ هناك صعوبة في تأمين كلفة الدواء والجلسة عند بعض المرضى، بالإضافة إلى هجرة بعض الأطباء النفسيين التي أدّت إلى إفراغ البلد من الاختصاصيين".
 
بين الجلسات النفسية والأدوية النفسية المعالجة همُّ واحد يسيطر على اللبنانيّ، كيفية تأمين ثمن هذا العلاج في ظلّ هذه الظروف الصعبة. إنّ ارتفاع كلفة الأدوية النفسية التي كان بعضها لا يتخطّى الـ20 والـ30 ألف ليرة لبنانية أصبح سعرها مضاعفاً عشرات المرّات وتختلف بين دواء وآخر لتبدأ بالـ400 ألف ليرة وصولاً إلى 4-5 ملايين ليرة لبنانية.
 
برأي الطبيبة النفسية في مركز "بلفو الطبي" الدكتورة هبة يعقوب إنّ المشكلة تتشعّب في مسألة الصحّة النفسية بدءاً من انقطاع الأدوية وعدم توفرها في الأسواق اللبنانية وصولاً إلى رفع الدعم الجزئيّ عن بعضها (بنسبة 65 في المئة) والكليّ عن بعضها الآخر حيث تتراوح كلفة الدواء بين 400 ألف كحد أدنى إلى الملايين".
 
تختلف الأسعار حسب نوع الدواء، إلّا أنّ الصعوبة الأكبر تتمثّل بتوفّره في السوق، وانقطاعه المتواصل دفع ببعض المرضى إلى استيراده من الخارج خصوصاً من الدول المجاورة مثل مصر وتركيا.
 
وفي جولة على الصيدليات، يبدو واضحاً وملموساً أنّ أسعار أدوية الاكتئاب والمهدّئات ارتفعت أضعاف الأضعاف، وعلى سبيل المثال لا الحصر، كان دواء الـxanax لا يتعدّى العشرين ألف ليرة أما اليوم فأصبح سعره حوالى 500 ألف ليرة. أمّا دواء الـdeanxit فأصبح سعره مليوناً و426 ألف ليرة لبنانية. تبلغ كلفة دواء cypralex l مليوناً و625 ألف ليرة وهو ضدّ الاكتئاب، وكذلك دواء ذات التركيبة نفسها واسمه Apoescitalopram حيث يبلغ سعره 590 ألف ليرة (10ملغ) ومليون و130 ألفاً (20 ملغ).
أمّا دواء الـLexotanil فيبلغ سعره 430 ألفاً (3 ملغ)، ودواء Alprox حوالى 560 ألف ليرة (1ملغ). 
 
 
تعترف يعقوب أنّ توفّر الدواء ليس المشكلة الوحيدة، فكلفته لم تعد بمتناول فئة من المرضى، فالدواء الذي لم يكن يتعدى سعره الـ20 ألف ليرة يبلغ اليوم 500 ألف ليرة وما فوق. هذا الارتفاع الكبير في الأسعار أثّر على بعض المرضى الذين يتوجّب عليهم الاستمرار في العلاجات. ومع ذلك، ساعدت الجمعيات في سدّ هذه الثغرة من خلال توفير الأدوية مجاناً أو بأسعار رمزية بعد أن كانت الأدوية شبه مقطوعة.
 
ويبدو واضحاً أنّ أكثر الاضطرابات النفسية الشائعة في هذه المرحلة تشمل الاكتئاب والقلق واضطراب ما بعد الصدمة. في آخر دراسة شاملة أُجريت حول انتشار الاضطرابات المختلفة في لبنان في العام 2006، كانت الاضطرابات الأكثر شيوعاً بين اللبنانيين هي الرهاب والاكتئاب والقلق، وكانت هذه الاضطرابات مرتبطة غالباً بالصدمات التي أحدثتها الحروب. وتبّين أن الاكتئاب هو الاضطراب الفرديّ الأكثر شيوعاً في لبنان، حيث سُجّلت معاناة 16.7 في المئة من السكان باضطرابات القلق، ومعاناة 12.6 في المئة من الاضطرابات المزاجيّة. وعانى ما يقرب من 4.3 في المئة من السكان أيضاً من الأفكار الانتحاريّة.
 
ومن الـ2006 وحتى اليوم، لم تصدر أيّ دراسة جديدة أخرى تشمل هذه الاضطرابات والتغييرات التي طرأت على حياة اللبنانيين خلال 17 سنة.
 
ممّا لا شكّ فيه أنّ الظروف الاقتصادية الصعبة أثّرت على كلّ فئات المجتمع، إذ تؤكّد المعالجة والمحللة النفسية ورئيسة اللجنة المالية في نقابة النفسانيين في لبنان الدكتورة صونيا جان شمعون أنه "لا يمكن إنكار أنّ أسعار الجلسات النفسية انخفضت إلى أكثر من النصف عمّا كانت عليه قبل الأزمة، وهذا الانخفاض جاء بقرار من المعالجين النفسيين والنفسانيين شعوراً مع الناس وتماشياً مع صعوبة البلد. فالنفساني أو المعالج بحاجة إلى استيفاء المبلغ المترتب عليه من استئجار العيادة ومصاريف تشغيل الكهرباء وغيرها من أعمال الصيانة والمصاريف الأخرى، في حين يعاني المريض الذي يتقاضى راتبه بالليرة اللبنانية لأنّه يعتبر الجلسة "غالية"، أمّا المريض الذي يتقاضى بالدولار فالوضع أسهل عليه لأنّ سعر الجلسة أنخفض مقارنة عمّا كانت عليه سابقاً".
 
 
ونتيجة هذا الواقع، نلاحظ أنّ هناك بعض الأشخاص الذين لجأوا إلى تقليل وتخفيض عدد الجلسات الأسبوعية، بينما توجه البعض الآخر إلى الجمعيات التي تقدّم هذه الخدمات النفسية بأسعار مقبولة جداً. وتشدّد شمعون على أنه في ظلّ الأزمة المالية الخانقة، يتعامل المعالج النفسي مع حالة كلّ مريض بخصوصيّة، ويكون هناك اتّفاق بينه وبين المريض للمناقشة والتوصّل الى اتفاق حول تسعيرة تناسب الطرفين، خصوصاً بالنسبة إلى الأشخاص غير القادرين على تحمّل أعباء التكلفة المادية. وعليه ليس هناك تسعيرة موحّدة تسري على جميع المرضى.
 
ودرست اللجنة المالية في نقابة المعالجين النفسانيين بعض البنود الأساسية ومنها كلفة الجلسة النفسية وتحديد الحدّ الأدنى والاقتراح أن يكون بالدولار إلّا أنّه أقلّ بكثير مما كان قبل الأزمة، وفي انتظار اخذ الموافقة لإعلان التسعيرة بحدّها الأدنى، في حين يحقّ لأصحاب الاختصاص والخبرة الطويلة أن يتقاضوا أعلى من التسعيرة المحدّدة. ويعتبر متوسّط الجلسة حاليّاً حوالى 50 دولاراً تقريباً، لكن هناك من يتقاضى أكثر وبعضهم أقلّ، وهناك البعض لا يتقاضى ثمن كلّ الجلسات (يتقاضى ثمن جلستين مقابل جلسة مجانية، أو أسعار زهيدة).
 
ولا تخفي شمعون أنّه نتيجة الأزمات المتتالية زاد الطلب على جلسات العلاج النفسيّ اليوم، إلّا أنّ العائق عند البعض هو المال، ووجود الجمعيّات ساهم في سدّ هذه الثغرة عند البعض.




اقرأ في النهار Premium