إن زارنا يوماً، فهو يجيد فنّ الاختباء في زحمة الأفكار، في النظرات والضحكات بين الشلّة، على جدران غرفتنا، في سريرنا، في الحوارات أمام المرآة، في نصّ مكتوب خلسة على هواتفنا، في محادثة مع شخصنا المفضّل، في شرود بزوايا مقهى، يباغته النادل: هل من مزيد؟
لم أحصِ يوماً عدد المرّات التي قرأت فيها عن تجربة كتبها شخص ما نجا من هذا الزائر، ولكن في كل قصّة، وجدت ذلك الذي يحاول انتزاع الحياة من "فم القرش"، إلّا أنّه ربّما ما كان يجيد "السباحة" أو كان يخاف شراسته فامتلكه شعور إضاعة فرص النجاة.
تستهوينا فكرة أن يصارحنا الطبيب بأنّنا مصابون بشتّى أنواع الآلام والأمراض، نستسهلها، نخبر من حولنا أنّنا نتناول دواءً لألم الرأس وآخر لتنظيم دقّات القلب، مضادّاً للسكري والضغط وألم المفاصل ربّما و و و... وحده هذا الزائر ما يزال ثقيلاً، لا يرحّب به كغيره، نخاف مقابلته والحديث معه، نراقبه عن بعد علماً بأنّه قد يكون الأقرب!
حديث الانتحار، هو ذلك الزائر المختبئ خلف ستار "الجرصة" و"الحرام" و"العيب"، وكأنّ البوح ممنوع والنجاة تفصيل، والمشاعر والظروف والدوافع هي مجرّد "كومبارس" لا تظهر إلّا في مشهد واحد داخل "الفيلم".
"سكّرت الدني بوجّي"، "لشو هالحياة" و"يا ريت بنام ما بقوم" ليست مجرّد مصطلحات عابرة يمكن تجازوها بل هي نتاج غياب الأمان والدعم في ظل ظروف أقلّ ما يقال فيها أنّها قاسية ولا ترحم.
الأرقام والإحصاءات من الجهات الرسميّة لا تكفّ عن الإشارة إلى الزيادة المقلقة في نسبه، نتيجة الظروف المعيشيّة والاجتماعية والأزمات المتتالية التي نعيشها، والبعض ما زال يعتبر الانتحار مجرّد فكرة تقتصر على التسليم للموت!
يقول رجا، وهو أحد الناجين الذين اجتازوا "المطبّ": "منذ أن كنت ابن 12 عاماً بدأت أشعر بنوع من المشاعر السوداء، وأنّ الأشياء ما عادت جميلة ومسلّية، فقدت ذلك الشغف، إلّا أن الأمور لم تؤثر كثيراً حينها، فاستمرّ مشواري في المدرسة وبعد سنوات دخلت الجامعة أيضاً. ولكن عام 2006 وقبل دخولي الجامعة بدأت أشعر بنوبات قلق جديدة وأفكار أقوى ولكن من لا شيء، تخطر لي فجأة وأستمرّ في التفكير بها حتى الاستنزاف لمحاولة التخفيف من حجم القلق".
يروي رجا رحلة النجاة لـ"النهار": "عانيت من اضطراب الوسواس القهري والقلق وأيضاً الكآبة، ولكن أثر الوسواس القهري والكآبة كان أقوى على حياتي. انهيارات والكثير من البكاء، أصعبها كان في حزيران من عام 2012".
أكثر من شهر استمرّت المعاناة، "ما باكل، ما بنام، ما بقوم عن الكنباية، كل يوم بقضيها عم إبكي، بضطر حط شي بدينيّي موسيقى أو فيلم بس حتى شوي إغفى، كانت كتير صعبة، وما كنت لاقي أمل أو دافع ولا شي أبداً".
بهذه الكلمات يصف تلك المرحلة من حياته، ويقول: "كل شي فكرت فيه هو بس إذا بتخلص حياتي وبرتاح".
بادرت إلى السؤال الذي بالمناسبة، يُعدّ نوعاً من التطفل عندما يخبرنا أحد ما عن معاناته، ولكن "هيدا الدارج": كان في شي مزعلك أو بس هيك؟ يقول رجا: "ما كان يكون في حادثة، ولكن كنت انزعج من طريقة تفاعلي مع الأحداث، الواقع موجود ولكن طريقة عدم تقبّلي للموضوع وكيف أُسقطها على نفسي كانت تؤلمني".
"إدمان التفكير، والغرق في تلك الحفرة يوماً بعد يوم أصبح أعمق". قرّر بعدها رجا أن يقصد المعالج النفسي، وخلال جلستين قرّر الأخير أن يحوّله على طبيب نفسيّ للبحث في الحالة. بدأ رجا بتناول الأدوية. وفي عام 2015 عاد ليعاني من نوبات الهلع. "طوّلت معي". قصد الطبيب مجدّداً وكان أحد أصدقائه، فقرّر دخول المستشفى بعد التفكير والتخطيط للطريقة التي سينهي حياته بها. "كل ما شوف بلكون كنت اتخيّل كيف بدّي نطّ منّو، سيطرت عليّ فكرة الموت".
وبعد تعديل الأدوية حصل نوع من التحسّن، إلّا أن الحالة تكرّرت عام 2020 وسلك الطريق عينه. يقول رجا "أتابع علاجي حتى اليوم، الأطبّاء علّموني ما يجب أن أفعله وأنا تابعت. واجهت الأمور حتى انكسرت الفكرة أخيراً وأصبحت أخفّ. نعم هناك في بعض الأحيان نزاع مع المشاعر ولكنّني الآن أصبحت أتمكن من السيطرة".
يستذكر رجا معاناته مع عدم تقبّله حين كان يشارك مشاعره مع البعض، وخسارته لأشخاص آخرين ويقول: "كان الكل يقول شدّ حالك هيدا شويّة ستريس إنت كل الوقت بتضحك". ولاحقاً بعد العلاج، أصبح الحديث عن الصحّة النفسية أسهل بشكل تلقائي وعفوي بعيداً عن النصائح.
يُذكر أن رجا انخرط بنشاطات مع جمعية "EMBRACE" منذ عام 2013، "أردت أن أكون الشخص الذي لم أجده". قصةّ أخرى، وناجية قرّرت البوح، تقول لـ"النهار": "حاولت الانتحار قبل 3 سنوات، ولن أكذب فالفكرة راودتني مرّة أخرى حديثاً". تصف الناجية فكرة الانتحار بالصعبة "أعيش في صراع دائم مع نفسي ومع محيطي، وأحياناً أقول لنفسي: بلكي الوجع بيخلص".
تضيف: "الألم حقيقي وقوي، ويزداد لأن بعض الناس لا يستطيعون استيعابه، عدا عن أنّهم لا يرون الجرح بالعين المجرّدة. والبعض الآخر يذهب لعدم التصديق بأنّك تمرّ بهذه الحالة (لأن بشوفوني عم إضحك، عندي أصحاب، أو معي مصاري)".
تروي الناجية مرورها بلحظات ضعف "كنت أحياناً ألازم الفراش، أشعر أنني بحاجة للاختفاء، كنت أرجو الله أن يأخذني كي لا أقدم على الانتحار. كنت أبكي في النهار الواحد أقلّه 3 مرّات، ولا أدرك كيف أكون سعيدة، إلى أن قرّرت أن أوقف هذا الوجع بطرق جسديّة لن أدخل في تفاصيلها، ولكنّ الوجع الجسدي ذلك كان أسهل بكثير".
تستذكر الناجية مشهد والدتها التي رأتها في إحدى المرّات مغمى عليها "زعلت كتير وما حدن بيعرف غير ماما وبابا".
الناجية التي قصدت معالجاً نفسياً تقول إن الفكرة لم تختف تماماً بعد زيارات متتالية إلّا لفترة قصيرة، وتشير إلى أنّ الأمل شيء بعيد كلياً عن التنظير كأن يقول لك أحدهم "فكّروا بالله وبأهلكن وبرفقاتكن". "مجتمعنا زبالة والعلاج صار كتير غالي".
توجّه رسالة للمجتمع "حبّوا الناس اللي حواليكن، كونوا أقل لؤم، تفقّدوهن، في ناس كتير مفكرة إنّو ما في حدن بحبّا، اخلقوا بيئة بتحضن هيدي الأشخاص".
وتختم بأنّ حالتها اليوم أفضل "الأكيد أن شيئاً جميلاً ما يمكن أن يحدث".
المشرفة على الخط الساخن 1564، المعالجة النفسية في عيادة "embrace" للصحة النفسية، جويل جابر، كشفت لـ"النهار" أنّنا "شهدنا ارتفاعاً لافتاً في عدد الاتصالات التي نتلقاها، ففي عام 2021 تلقينا حوالي 8959 اتصالاً ولكن حتى شهر آب من 2022 تلقينا بحدود 9000 اتصال والعام لم ينته".
تضيف: "إحصاءاتنا أظهرت أن عدد الاتصالات مقارنة بعامي 2019 و2020 قد تضاعف 3 مرّات، ما يؤكد حاجة الناس لتلقّي الدعم النفسيّ. نعم ليست الاتصالات كلّها مرتبطة بحالات انتحار ولكن الحاجة إلى الدعم موجودة".
تلقي المعالجة النفسية جويل جابر الضوء على الإحصاءات العالمية التي تظهر انتحار شخص كل 40 ثانية، وتقول: "هذه مشكلة عالمية، فالشخص الذي يصل إلى مرحلة التفكير بالانتحار هو شخص موجوع، فاقد للأمل، يبحث عن ضوء في نهاية النفق، يشعر بأنّه وحده وما من أحد يستطيع اللجوء إليه".
تؤكد جابر أن "عوامل عدّة لها دورها، من بيولوجية إلى اجتماعية واقتصادية محيطة، وهذه العوامل كلّها موجودة في لبنان خصوصاً في السنوات الأخيرة من انفجار مرفأ بيروت والصدمة التي أثّرت على الجميع إلى كوفيد والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي واجهناها، هذا عدا عن المشاكل الشخصية الموجودة في حياة كل إنسان".
"الحاجة إلى الدعم النفسي ماسّة"، وعلى سبيل المثال تقول المعالجة النفسية "بعد انفجار المرفأ عياداتنا فتحت أبوابها مباشرة ومجّاناً، فالوضع الاقتصادي سيّئ جداً ومن حق كل إنسان الحصول على الدعم".
وعن هجرة الأطبّاء النفسيّين، تأسف جابر لأنّ لائحة المرضى على لائحة الانتظار تطول، وتقول: "الضغط كبير ونحاول مساعدة الناس بشتّى الطرق عبر الخط الساخن بالتعاون مع وزارة الصحة وعبر جلسات التوعية لكسر وصمة العار المنتشرة التي تمنع الناس من الذهاب إلى المعالج النفسي لأن البعض يعتبر المريض النفسي ضعيفاً أو مجنوناً". وفي صرخة وجّهتها عبر "النهار"، تقول جابر "النقص كبير ونحن بحاجة للدعم ولكننّا نحاول قدر المستطاع، فالقسم الأكبر من الفئة التي تعاني هو ما بين 18 و35 سنة، وأقول لهم نحن نسمعكم ونعلم حجم المعاناة (أكبر ممّا الكتاف بتحمل)، نحن على السمع 24/24".